3 تريليونات دولار خسائر الاقتصاد العربي من وراء انتشاره-الفساد سرطان ينخر في جسد الأمة العربية
أكد تقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية ومقرها مدينة (فرانكفورت) الألمانية، أن الدول العربية سجلت تراجعًا مقلقًا في عمليات مكافحة الفساد، معتبرًا أن الأعوام الماضية كانت الأسوأ في مكافحة هذا الداء اللعين، معتبرًا أن الفساد يشكل العائق الرئيسى بوجه جميع مبادرات التطوير الديموقراطي والاجتماعي والاقتصادي.
عزا التقرير تراجع الدول العربية في مكافحة الفساد إلى غياب الإرادة السياسية وسيطرة نخب بعينها على القرار الاقتصادي، فضلاً عن ضعف أجهزة الرقابة على السلطة التنفيذية وتنامي نفوذ الأجهزة الأمنية، وضعف تأثير المجتمع المدني وسلطة الإعلام.
وأفاد التقرير الصادر عن منظمة الشفافية الدولية باحتلال الدول العربية مراتب متأخرة جدًا في سلم الدول الأكثر فسادًا؛ حيث تصدرت كل من اليمن والعراق والسودان والصومال قائمة أكثر الدول العربية فسادًا، فيما احتلت مصر والجزائر مرتبة متدنية جدًا على سلم الشفافية، وإن كان التقرير قد سجل تحسنًا في سبل مكافحة الفساد في بعض دول الخليج من بينها قطر والإمارات العربية المتحدة والكويت.
وقدر التقرير حجم الهدر في الاقتصاد العربي بما يقرب من 3 تريليونات دولار بسبب تنامي الفساد في الإدارات الرسمية وتحول الرشاوى لسلوك رسمي للبيروقراطية العربية، مؤكدًا أن توجيه 5% فقط من هذا الهدر كان كفيلاً بإنقاذ قطاعات التعليم والصحة من المآل السيئ الذي تعانيه منذ سنوات بسبب نقص التمويل، مشددًا على ضرورة تحديث التشريعات الحالية لمكافحة الفساد لمواجهة التطور المذهل في قضايا الفساد مثل جرائم تبييض الأموال والجرائم المرتبطة بالقطاع المصرفي خصوصًا الإلكترونية منها.
تداعيات مدمرة
ولعل تقرير منظمة الشفافية الدولية يتطابق في كشف التداعيات المدمرة للفساد على قطاع التنمية في العالم العربي مع كثير من الدراسات أهمها في هذا القطاع ما ذهبت إليه دراسة د. هناء خير الدين بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية التي خلصت إلى أن الدول العربية تستطيع مضاعفة دخلها القومي أكثر من 400% إذا قلصت الفساد لحدوده الدنيا فقط دون القضاء عليه بشكل تام، مشيرة إلى أن كلفة الاستثمار في الدول الأكثر محاربة للفساد تقل بنسبة 20% عن الدول المحاصرة بهذا الوباء، لافتة إلى أن خسائر الفساد في مختلف القطاعات قد أدت لعواقب وخيمة قد يكون من بينها إجبار أكثر من مليون من الكوادر المهنية المدربة على هجرة البلدان العربية والبحث عن بلاد أخرى لممارسة عمل يؤمّن لهم دخلاً محترمًا.
وأشارت الدراسة إلى أن الفساد يبيد الموارد ويخرب الاقتصاديات في العالم العربي التي أغلبها يكون موجهًا لخدمة الفقراء، بل يؤدي إلى ولادة حفنة من الطفيليين تستحوذ على نسبة كبيرة من هذه الموارد، ويزداد الفقراء فقرًا، وتتراجع معدلات التنمية المستدامة للحد الأدنى.
خصخصة وانفتاح
وفيما ربطت تقارير صادرة عن المنظمة العربية للتنمية الإدارية بين شيوع الفساد في البلدان العربية وبين تطورات اقتصادية من بينها انفتاح عدد من الدول العربية على الاقتصاديات الدولية دون أن تمتلك أدوات التحصين من مخاطر هذا الانزلاق غير المتكافئ، فكذلك أدى توسع عدد من الدول العربية في نظام الخصخصة إلى هدر مليارات الدولارات في عمليات السمسرة و«البيزنيس»، مقابل التخلص من وحدات القطاع العام بأقل من 5% من قيمتها الحقيقية بشكل كلف الاقتصاديات العربية أكثر من 100 مليار دولار خلال السنوات القليلة الماضية.
وأيضًا أسهم دخول البنوك الأجنبية بوصفها لاعباً اقتصادياً في الساحة العربية، في رفع فاتورة الفساد في بلداننا العربية حيث لزم لدخول هذه البنوك الساحة العربية تخريب عديد من البنوك الوطنية لدرجة أن أحد البنوك المصرية قد تمت خصخصته من أجل التخلص من ديون له لدى عدد من رجال الأعمال تتجاوز 30 مليار جنيه كانت كفيلة بإنقاذ قطار التنمية المتعثر في مصر، وهو أمر تكرر بصورة كربونية في عدد من البلدان العربية مشرقية كانت أو مغربية.
فدولة مثل العراق مثلاً تكبدت بسبب الفساد في إهدار ما يقرب من 500 إلى 600 مليار دولار خلال السنوات الخميس الماضية، لدرجة أن جهات دولية قدرت الهدر في تطوير الثروة النفطية العراقية فقط فيما أنفق على تطوير حقول الرميلة ومجفون والقرنة الغربي بما يزيد على 15 مليار في ظل غياب الشفافية والمحاسبة على هذه التجاوزات.
السلطة ورجال الأعمال
ولكن الأمر الأكثر خطورة فيما يتعلق بالفساد في العالم العربي أنه تحول إلى سلوك يومي وممارسة مستفزة بحسب وصف الاقتصادي المصري جلال أمين، بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى تحوله لثقافة ولاسيما في الجهاز الإداري في العالم العربي بحيث لم تعد تستخرج ورقة رسمية أو تصريح من جهة حكومية إلا مقابل ما يطلق عليه (الإكرامية) أو الرشاوى؛ مما يعكس تفشي الفساد بشكل كبير داخل العالم العربي.
ومن الأمور اللافتة فيما يتعلق بانتشار الفساد حالة العجز التي عانت منها الحكومات العربية في مواجهة هذه المشكلة، حيث بدت هذه الحكومات كأنها غير معنية باستئصال هذا الوباء من الجسد العربي لدرجة أن كثيرا من المراقبين قد اتهموا الحكومات العربية بالتواطؤ مع نخب مقربة منها تعد المسؤول الأول عن انتشار الفساد، بل إن هناك اتهامات تطلق من الخبراء الاقتصاديين بشأن التزاوج بين السلطة وبين رجال الأعمال بالمسؤولية عن شيوع الفساد الذي حول الدول العربية إلى دول أكثر فقرًا رغم امتلاكها جميع السبل لتحقيق طفرات تنموية قوية.
سرطان ينخر
ويدعم الطرح السابق د.رشاد عبده الأستاذ بكلية التجارة جامعة القاهرة حيث يعتبر الحكومات العربية المسؤول الأول عن تحول الفساد لسرطان ينخر في الجسد العربي، رغم تأكيده على أن الحكومات ليست وحدها المسؤولة، فهناك مسؤولية كذلك لمؤسسات المجتمع المدني ونوادي رجال الأعمال، وكذلك القواعد الشعبية التي تعد الخاسر الأول من تغول الفساد في الاقتصاد العربي.
واعتبر د.رشاد عبده أن وجود مصطلحات مثل الحكم الرشيد والشفافية والمساءلة ضروري جدًا لمكافحة الفساد، فضلاً عن ضرورة تطوير البنية التشريعية العربية لتتواكب والتقدم المذهل في علم الجريمة مثل الجرائم الإلكترونية وغسيل الأموال، مشيرًا إلى أهمية تطوير الأجهزة الرقابية ومؤسسة القضاء ومشاركة القوى المجتمعية في لجم الفساد، لافتًا إلى أن أي نقص في هذه الحلقات سيسمح للفساد بالتوغل بشكل قوي في المجتمعات العربية.
واعتبر د.رشاد أن الفساد قد توغل بحيث غدا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، غير أن تأثيراته على مسيرة التنمية في البلدان العربية ـ أغلبها مواردها محدودة ـ كانت مدمرة وأسهمت في تدمير الطبقة المتوسطة التي تشكل عنصر الأمان في أي مجتمعات، فضلاً عن التدهور في القطاعات الخدمية والتعليمية وهو ما يتطلب وقفة مجتمعية شاملة ضده.
تجفيف منابع
فيما يرى د.محمد عبد الحليم عمر مدير مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر أن الإرادة السياسية تعد السبيل الأهم لمكافحة الفساد، فتقديم ضالعين في الفساد رغم قربهم من السلطة للمحاكمة سيشكل عامل ردع كبير لنظرائهم للتراجع عن فسادهم، مشيرًا إلى أن إيجاد ثقافة شعبية لمكافحة الفساد يلعب فيها الدين دورًا مهمًا سيعمل بقوة على تجفيف منابع الفساد، فضلاً عن أن تغليظ العقوبات على من يرتكبون جريمة الفساد على أي مستوى إلى أقل موظف في أي هيئة بيروقراطية سيعمل على تجفيف منابع الفساد وتقديم تأكيدات على وجود إدارة قوية لاستئصال هذا الداء الملعون من جسد الاقتصاد العربي.
ولفت د.عمر إلى أن مكافحة الفساد تحتاج لوقت طويل؛ ولاسيما أن أغلب الاقتصاديات العربية منغلقة؛ مما يجعل استئصال الفساد أمرا شديد الصعوبة، مشيرًا إلى أن الشفافية وتقوية أجهزة الرقابة وتطوير الآليات القانونية وتحديثها لمحاربة الفساد قد تقلل من هذا الوباء للحد الأدنى، وهو ما يقدم فرصة ذهبية لانطلاق مسيرة التنمية في بلداننا العربية وهي المسيرة التي أصابها الفساد في مقتل طوال العقود الماضية.
لاتوجد تعليقات