رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 23 يناير، 2019 0 تعليق

يصحّ للواقف وقف ما يشاء من أمواله – الضابط الخامس –


باب الوقف من الأبواب المهمة التي من الأهميّة تقرير ضوابطه، ذلك أنّ عامّة أحكام الوقف اجتهاديّة؛ فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامّة، الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثمّ من القواعد الفقهيّة الكلّيّة، ثم يترجم كلّ ذلك على هيئة ضوابط خاصّة بباب الوقف، وهو ما سنتناوله في هذه السلسلة المباركة -إن شاء الله-، واليوم مع الضابط الخامس وهو يصحّ وقف ما يشاء من أمواله.

معنى الضابط

 الواقف الموصوف بأهليّة التبرُّع المطلوبة لصحّة الوقف، يجوز له أن يقف ما شاء من أمواله التي يصحّ شرعاً وقفُها؛ إذ لا حَجْرَ عليه في شيءٍ من ذلك.

- وقولنا: الموصوف بأهليّة التبرّع: احترازٌ ممّن لم يكن كذلك، ممّن قد يفقد بعضَ الشّروط، كالصّغير، أو من تقوم به بعض الموانع، كالسّكران.وقولنا: التي يصحّ شرعًا وقفُها: احترازٌ ممّا لا يصحّ وقفُه بالإجماع، كمحرّم المنفعة، وإشارةٌ إلى ما في وقفه خلافٌ، كالنّقدَيْن، والمنقول، والحيوان، ونحو ذلك.فإذا كان الواقفُ أهلاً لأن يصحّ منه الوقف، وكانت العين التي يتّجه إلى وقفها مما يصحّ -عنده على الأقلّ- وقفها؛ فله وقفُها أيًّا ما كانت -نوعًا وقَدْرًا-.

هل له أن يجعل كلّ ماله وقفاً؟

     هذه مسألةٌ معروفةٌ عند أهل العلم، تكلّموا فيها حول حُكْم أن يتصدّق العبدُ بكلّ مالِه، ويتخلّى عنه جميعه؛ حيث لا يترك لنفسه ولا لأهله شيئًا، ولا يستطيع فعل ذلك طبعًا إلّا إذا فعلَه ناجزًا في حياتِه؛ لأنّ تصرُّفَه في مرض الموت، أو تعليق التصرُّف على الموت، لا يكون إلّا في الثّلث.

     وقد تنوّعت مآخذ نظر الفقهاء في هذه المسألة بين علمي الفقه والسّلوك؛ إذ إنّ تخلّي الإنسان عن كلّ ماله مع حاجته التي لا بدّ منها لذلك المال، لا يقوى عليه كلُّ الناس، من جهة احتمالِ ضغط الحاجةِ نفسيًّا، والصّبر عليها -إيمانًا واحتسابًا-، قال -تعالى-: {وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ والمِسْكِيْنَ وَابْنَ السَّبِيْلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيْرًا إِنَّ المُبَذِّرِيْنَ كَانُوْا إِخْوَانَ الشَّيِاطِيْنِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوْرًا}، قال القاسمي: «وقد استدلّ بالآية من منع إعطاءَ المال كلِّه في سبيل الخير، ومن منع الصدقة بكل ماله».

النزاع في المسألة

     والنّزاع في المسألة لخّصه النّوويّ -رحمه الله-، قال: «وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله؛ فمذهبنا أنّه مستحبٌّ لمن لا دَيْن عليه ولا له عيال لا يصبرون، بشرط أن يكون ممن يصبر على الإضاقة والفقر؛ فإن لم تجتمع هذه الشروط فهو مكروهٌ. قال القاضي: جوّز جمهور العلماء وأئمّة الأمصار الصدقة بجميع مالِه، وقيل: يُرَدّ جميعُها، وهو مرويٌّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقيل: ينفُذ في الثّلث، وهو مذهب أهل الشّام، وقيل: إنْ زاد على النصف رُدَّت الزيادة، وهو محكيٌّ عن مكحول، قال أبو جعفر الطّبري: ومع جوازه فالمستحبّ ألا يفعله، وأن يقتصر على الثلث».

ثمانية أقوال

وقد استقصى ذلك أيضاً الأستاذ العلّامة موسى شاهين لاشين، ولخّصه تلخيصاص حسناً؛ فقال: «فتحصّل ثمانيةُ أقوال في هذه المسألة:

جائز مطلقاً

- الأول: أنّ الصدقة بجميع المال جائزة مطلقاً، نقله القاضي عن جمهور العلماء، وأئمّة الأمصار، ويمكن أن يستدلّ له بتبرُّع أبي بكر بجميع مالِه، وقد جاء هذا في حديث مرفوع أخرجه أبو داود وصححه الترمذي والحاكم عن عمر بن الخطاب قال: أمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي؛ فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقتُه يوماً؛ فجئت بنصف مالي، وأتى أبو بكر بكل ما عنده؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «يا أبا بكر! ما أبقيت لأهلك»؟  قال: أبقيت لهم الله ورسوله.

جائز بشروط

- القول الثاني: أنّ الصدقة بجميع المال جائزة بشروط؛ فإن فُقدت هذه الشروط، كانت مكروهة غير محرّمة، وهي نافذة لا تردّ، نسب الطبري هذا القول للجمهور، وقال: من تصدّق بماله كلّه في صحة بدنه، وعقله؛ حيث لا دَيْن عليه، وكان صبوراً على الضّيق، ولا عيال له، أو له عيال يصبرون، أيضاً فهو جائز؛ فإن فُقد شيء من هذه الشروط كُرِهَ. اهـ، ويمكن حمل فعل أبي بكر على استيفائه هذه الشروط.

يستحب بشروط

- القول الثالث: وهو ما نسبه النوويّ إلى مذهب الشافعية، وهو أنّه يستحب بالشروط المذكورة؛ فإن فقد شرطاً كُرِهَ؛ فهذا القول قَرُبَ من القول الثاني، والفرق هو الاستحباب بدل الجواز.

جائز بشروط وزيادة

- القول الرابع: أنّ الصدقة بكلّ المال جائزة بالشروط المذكورة في القول الثاني مضافاً إليها: ألا يصير المتصدّق محتاجاً بعد صدقته إلى أحد، بأن يكون قادراً -بعد الصدقة- على الحاجة الضرورية من مأكل، ومشرب، وملبس، ومسكن، له ولمن تلزمه نفقته، ودون هذا لا يصحّ الإيثار، بل يحرُم، وذلك أنّه إذا آثر غيرَه في هذه الحالة عرّض نفسَه إلى الهلاك أو الإضرار، أو كشف عورته، أو عورة من تجب عليه نفقته؛ فإذا سقطت هذه الواجبات صحّ الإيثار والصدقة، وكان له أجر ما يتحمّل من مَضَضِ الفقر، وشدّة مشقّته، وهذا القول هو المختار.

مكروهة

- القول الخامس: أنّ الصدقة بجميع المال مكروهة، حتى مع الشروط المذكورة، أو هي على الأقلّ خلاف الأولى؛ لأنّ من تصدّق بالجميع يندم غالباً، أو قد يندم إذا احتاج، ويودّ أنّه لم يتصدّق، بخلاف من أبقى ما يغنيه؛ فهي ليست جائزة مطلقاً كالقول الأول، ولا جائزة بشروط كالقول الثاني، ولا مستحبّة بشروط كالقول الثالث والرّابع.

مردودة

- القول السادس: أنّ الصدقة بجميع المال مردودة في جميع المال؛ فللورثة أن يردّوها بالحجر على صاحبها.

تنفذ في الثّلث

- القول السابع: أنها تنفذ في الثّلث وتردّ في الثلثين، كما هو الشأن في الوصية، وعملاً بحديث عبد الرحمن بن عوف.

تنفذ في النصف

- القول الثامن: أنها تنفذ في النصف وترد في النصف اعتباراً بعمل الأنصار مع المهاجرين، وفيه حديث صحيح في البخاري: «قَدِمَ المهاجرون المدينةَ وليس بأيديهم شيءٌ؛ فقاسَمَهُم الأنصار...».

الاحتياط والإرشاد

     والحقّ أنّ النّصوص لا تمنع من ذلك إلا على سبيل الاحتياط والإرشاد، والابتعاد بالمكلّف عن المخاطرة بتوازُنه النّفسيّ والحياتيّ، أمّا المنع والتّحريم فليس واضحاً منها؛ فعن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصّة تخلُّفه عن غزوة تبوك، وهو يحدّث بما كان بعد نزول توبته وتوبة صاحبيه، قال: قلت: يا رسول الله! إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: «أمسكْ عليك بعض مالك، فهو خير لك»، قلت: فإنّي أمسك سهمي الذي بخيبر. قال ابن دقيق العيد: «فيه دليلٌ على أنّ إمساك ما يحتاج إليه من المال أولى من إخراج كلّه في الصدقة، وقد قسّموا ذلك بحسب أخلاق الإنسان؛ فإنْ كان لا يصبر على الإضاقة كُرِهَ له أن يتصدّق بكلّ ماله، وإنْ كان ممّن يصبر لم يُكرَه»، وقد جاء في الحديث أيضاً: «خيرُ الصّدقة ما كان عن ظهر غِنىً، وابدأ بمن تعول».

معنى (عن ظهر غِنًى)

وفي معنى (عن ظهر غِنًى) أقوالٌ محتملة، تدور على معنىً واحدٍ، هو تصوُّن الإنسان عن أن يرجع بعد صدقته عائلاً على غيره بسبب حاجاته.

قال القاضي عياض: «فسّره أيوب في الحديث: عن فضل عيال، وبيانُه: من وراء ما يحتاج إليه العيال، كالشّيء الذي يُطرَح خلف الظّهر، بيَّنَه قولُه في الحديث نفسِه: وابدأ بمن تعول».

قال البغوي: «أي: غِنىً يعتمده، ويستظهر به على النوائب التي تنوبه، كما قال في رواية أخرى عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنّه قال: «إنّ خير الصّدقة ما ترك غنى»، يعني: خير ما تصدّقت به الفضلُ عن قوت عيالك وكفايتهم».

قال الزّمخشري: «أي: ما بقيتْ لك بعد إخراجها كفايةٌ لك ولعيالك واستغناء».

     وقال النّووي: «معناه: أفضل الصّدقة ما بقي صاحبُها بعدها مستغنيًا بما بقي معه، وتقديرُه: أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غِنىً يعتمده صاحبُها، ويستظهر به على مصالحه وحوائجه، وإنّما كانت هذه أفضلُ الصّدقة بالنّسبة إلى من تصدّق بجميعِ مالِه؛ لأنّ من تصدّق بالجميع يندم غالبًا، أو قد يندم إذا احتاج، ويودّ أنّه لم يتصدّق، بخلاف من بقي بعدها مستغنيًا؛ فإنّه لا يندم عليها، بل يُسَرُّ بها».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك