{وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}
قال الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُون لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ}، في هذه الآيات الكريمات ينادي الله عباده المؤمنين؛ لأن المؤمنين هم الذين يمتثلون أوامر الله، ويجتنبون نواهيه.
نداء الناس ونداء المؤمنين
كما أن الله -سبحانه- ينادي الناس عمومًا ليقيم عليهم الحجة، أما المؤمنون فإنه يناديهم بإيمانهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نداء تشريف وتكليف؛ لأنهم يمتثلون أوامر الله بمقتضى إيمانهم بالله -عز وجل-، ثم قال -تعالى- {اتَّقُوا اللَّهَ} أمرهم بأمرين الأمر الأول: فيما بينهم وبين الله وذلك بتقواه -سبحانه وتعالى- {اتَّقُوا اللَّهَ} أي: اجعلوا بينكم وبين غضب الله وقايةً تقيكم منها، وتقيكم من عذاب الله، وذلك بفعل أوامره وترك ما نهى الله عنه هذه هي الوقاية التي تقي من عذاب الله.
أمرٌ من الله
ثم أمرهم لأنفسهم فقال: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} فلتنظر كل نفس ما قدمت لغد من العمل والمراد بالغد يوم القيامة، سماه الله غداً لقربه لأنه قريب كل ما هو آتٍ قريب، وإنَّ غدًا لناظره قريب، ما أقربه من كل عبد بموته، وانتقاله إلى الدار الآخرة! وما أقربه من الجميع بقيام الساعة!: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً}، {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ} من الأعمال، فكروا في أعمالكم، حاسبوا أنفسكم؛ فإنكم لستم على حد إقامة، وإنما أنتم على أهبة سفر، فانظروا ما معكم من العمل لهذا السفر.
تزودوا للآخرة بالتقوى
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} تزودوا للآخرة بالتقوى {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، انظروا في أعمالكم فما كان منها صالحاً فاحمدوا الله عليه وازدادوا منه وداوموا عليه، وما كان منها سيئاً وما أكثره فاستغفروا الله وتوبوا إليه؛ فإن الله يغفر لمن تاب: {ويَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ}، {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} انظروا في أعمالكم، فالإنسان منا إنما يفكر بما يدخره في الدنيا إلا من رحم الله فهو يقول أنا أؤمن مستقبلي فيجمع المال ويجمع الاكتساب لأجل أن يؤمن مستقبله بزعمه، ولا يدري لعله ينتقل ويتركه لغيره ولا يدرك ما أمنه، إنما الذي يبقى هو ما تقدمه لآخرتك، أما الذي تجمعه لدنياك فأنت راحل وتاركه لغيرك؛ ولهذا قال: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ولم يقل ولتنظر نفس ما ادخرته للدنيا، بل تنظر ما قدمت للآخرة: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}، فلا تنشغلوا عن ذلك لأمور الدنيا، ولا تتركوا الدنيا وطيباتها وما أباح الله ولكن لا تنشغلوا بها، وخذوا منها ما يعينكم على طاعة الله عز وجل.
ما تقدمونه للآخرة
وما تتقربون به إلى الله من الصدقات والزكوات وغير ذلك من الأعمال الصالحة المالية فهذا للآخرة، أنت تقدم من مالك للآخرة كما أنك تقدم من عملك البدني من الصلاة والصيام وغير ذلك أيضاً للآخرة، فأنت تقدم من أعمالك البدنية وأعمالك المالية تقدم لآخرتك هو الذي سيبقى لك وتنتفع به، وأما ما زاد عن ذلك فإنه ليس لك وإنما هو لغيرك، فاجتهد فيما هو لك: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.
حاسب نفسك
حاسب نفسك أخي؛ فبعض الناس ينظر إلى عيوب الناس ولا ينظر إلى عيبه فيتحدث عن الناس فلان مقصر وفلان غافل وفلان كذا وفلان كذا، ولا ينظر إلى نفسه ويحاسب نفسه، نعم إذا رأيت على أخيك خطأً أو غفلةً ذكره ولكن ابدأ بنفسك، ذكر نفسك أولاً {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ولا تنظر إلى ما قدمه الناس لآخرتهم فقط، ابدأ بنفسك ثم انصح لغيرك حتى يقبل منك ما تقول وحتى ينفع الله بك؛ فالذي ينظر إلى عيوب الناس ويحصيها عليهم وينسى عيوب نفسه هذا مثل السراج الذي يضيء للناس ويحرق نفسه، فعليك أخي أن تتقي الله في نفسك أولاً {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.
إعادة الأمر بالتقوى
ثم قال -جل وعلا- في ختام الآية: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أعاد الأمر بالتقوى لأهميتها: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} راقب الله -سبحانه وتعالى- فيما تعمل ولا تزك نفسك: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} فاتقِ الله واعلم أنه مطلع عليك، راقب الله -سبحانه وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من خير أو شر وسيحاسبكم عليه وسيجازيكم عليه يوم القيامة، فأنتم ما دمتم في زمن الإمكان، في زمن الدنيا والحياة التي منحكم الله إياها وأمهلكم فيها بادروا بالمحاسبة، وتأهبوا للعرض الأكبر{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}، فاتقِ الله واعلم أنه مطلع عليك سواء عملت خيراً أم عملت شراً ويحصي ذلك عليك.
ليست العبرة بالظاهر
واعلم أنه يعلم نيتك وقصدك، فليست العبرة بالظاهر إنما العبرة بالنيات والسرائر؛ فأخلص نيتك لله، أما العمل الذي ليس لله فالله لا يقبله -سبحانه وتعالى-، ويكون وبالاً عليك وإن ظننت أنه عمل صالح؛ لأنه لم يؤسس على نية خالصة لله عزوجل، فالعمل الذي لله وإن كان قليلاً ينفع الله به؛ فقد يدخلك الله به الجنة حتى بشق التمرة: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»، قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}، فليست العبرة بكثرة الأعمال، بل بالأعمال الخالصة لله عز وجل؛ لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجه، وصواباً على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
لا تكونوا كالذين نسوا الله
وتذكروا هذه الآية دائماً وأبدا؛ ولهذا قال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} نسوا ذكر الله عز وجل، ونسوا العمل الصالح، وانشغلوا بالدنيا مشغلاتها وملذاتها: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}، فعاقبهم الله -سبحانه وتعالى- لما نسوه فأنساهم أنفسهم فلم يعملوا لها خيراً ولم يقدموا لها عملاً صالحاً عقوبةً لهم: «لأَنَّ الْجَزَاء مِنْ جِنْس الْعَمَل»، فعلينا أن نتقي الله جلَّ وعلا.
ما أعظم القرآن!
وما أعظم مواعظ القرآن الكريم لو أننا تدبرناه وعقلناه! قال -تعالى-: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} فلو أن الله خاطب بهذا القرآن الجبال الصم لتصدعت من خشية الله، وهو خاطبنا بها ولكن الكثير منا لم يرفع بها رأسه، ولم يتأثروا بها وإن كانوا يقرؤونه ويسمعونه، فصارت قلوبنا أقسى من الجبال، ولا حول ولا قوة إلا بالله، {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
لاتوجد تعليقات