رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 21 نوفمبر، 2016 0 تعليق

{ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا}

الخطر الأعظم والبلاء الأشد هو على من عميت بصيرته وطمست فطرته فأعرض عن الدين وسلك سبيل الغاوين

 العين بحاجة لقوة البصر لترى المرئيات والقلب كذلك بحاجة إلى البصيرة ليرى الحقائق ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم  يسأل الله -تعالى- النور لقلبه وبصره وكل جوارحه

 

فقد البصر من أعظم المصائب الدنيوية، ومن أشد ما يعرض للعبد من ابتلاء كما قال أنس: سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: «إن الله -عز وجل- قال: إذا ابتَليتُ عبدي بحبيبتَيه، فصبَر، عوَّضته منهما الجنة». يريد: عينيه. متفق عليه.

وبحسب إحصائية منظمة الصحة العالمية، فهناك 39 مليون نسمة كُفّت أبصارهم، و246 مليون نسمة ضعفت رؤيتهم، وهذه بلا شك أرقام كبيرة تدل على معاناة شديدة لكثير من الناس.

     ولكن الخطر الأعظم والبلاء الأشد هو على من عميت بصيرته، وطمست فطرته، فأعرض عن الدين، وسلك سبيل الغاوين. ولفظ العمى يطلق على فقد البصر والبصيرة -كما قال الراغب- فمن الأول قوله تعالى: {أن جاءه الأعمى} (عبس:1)، وعلى الثاني ما ورد من ذم العمى في القرآن نحو قوله: {صم بكم عمى} (البقرة: 18) . بل إن القرآن الكريم يعد فقد البصيرة أعظم من فقد البصر كما قال سبحانه: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى في الصدور}(الحج: 46) قال الشيخ ابن سعدي: أي: هذا العمى الضار في الدين، عمى القلب عن الحق، حتى لا يشاهده كما لا يشاهد الأعمى المرئيات، وأما عمى البصر فغايته بلغة، ومنفعة دنيوية.

والقرآن الكريم يبين لنا خطورة عمى القلب عن رؤية الحق، والقيام بواجب عبادة الله -تعالى- وحده والقيام بشكره فقال تعالى: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا} (الإسراء:72) . 

فذكر الله -تعالى- في هذه الآية العمى مرتين، ولاشك أن عمى الآخرة ثمرة ونتيجة لعمى الدنيا، وقد كان للعلماء وقفات مع هذه الآية الكريمة.

الوقفة الأولى: العمى ليس على حقيقته:

     نقل الشوكاني عن النيسابوري أنه لا خلاف أن المراد بهذا العمى عمى القلب، وليس عمى البصر، وعلل ذلك بأن قوله:{فهو في الآخرة أعمى} أفعل تفضيل: أي: أشد عمى، وهذا مبني على أنه من عمى القلب؛ إذ لا يقال ذلك في عمى العين، قال الخليل وسيبويه: لأنه خلقة بمنزلة اليد والرجل، فلا يقال: ما أعماه كما لا يقال : ما أيداه» . ومعلوم أن فقد البصر في الدنيا ليس أمرا كسبيا يفعله العبد بإرادته، وإنما هو أمر قدري كوني يبتلى به، فكيف يعاقب على ما لا اختيار له فيه ولا قدرة عليه؛ فهذا يتنافى مع عدل الله -تعالى- القائل:{ليس على الأعمى حرج}(النور:61)، وقال سبحانه:{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} (سورة البقرة:286).

الوقفة الثانية: ما سبب عمى الآخرة؟

قال البغوي:» اختلفوا في هذه الإشارة:{من كان في هذه أعمى}:

     فقال قوم: هي راجعة إلى النعم التي عددها الله -تعالى- في هذه الآيات من قوله:{ربكم الذي يزجي لكم الفلك} إلى قوله:{تفضيلا}، يقول: من كان منكم في هذه النعم التي قد عاين أعمى، فهو في أمر الآخرة التي لم يعاين ولم ير{أعمى وأضل سبيلا} يروى هذا عن ابن عباس .

وقال الآخرون: هي راجعة إلى الدنيا، يقول: من كان في هذه الدنيا أعمى القلب عن رؤية قدرة الله وآياته ورؤية الحق، فهو في الآخرة أعمى، أي: أشد عمى وأضل سبيلا أي: أخطأ طريقا.

وقيل: من كان في هذه الدنيا أعمى عن الاعتبار، فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار.

وقال الحسن: من كان في هذه الدنيا ضالا كافرا، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا؛ لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته».

     قال الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله على أنه المنفرد بخلقها وتدبيرها، وتصريف ما فيها، فهو في أمر الآخرة التي لم يرها ولم يعاينها، وفيما هو كائن فيها أعمى وأضل سبيلا يقول: وأضل طريقا منه في أمر الدنيا التي قد عاينها ورآها».

الوقفة الثالثة: ما حقيقة عمى الآخرة؟

قال الشوكاني: وأما قوله: {فهو في الآخرة أعمى}:

 فيحتمل: أن يراد به عمى البصر كقوله: {ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا} (طه: 124-125) وفي هذا زيادة العقوبة، ويحتمل: أن يراد عمى القلب .

وقيل: المراد بالآخرة:عمل الآخرة أي: فهو في عمل أو في أمر الآخرة أعمى، وقيل: المراد من عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا، فهو عن نعم الآخرة أعمى.

وقيل: من كان في الدنيا التي تقبل فيها التوبة أعمى، فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى.

وقال ابن عاشور: «والمراد بالعمى في الدنيا (الضلالة في الدين)، أطلق عليها العمى على وجه الاستعارة.

والمراد بـ(العمى في الآخرة) ما ينشأ عن العمى من الحيرة واضطراب البال».

وقال ابن سعدي:» «ومن كان في هذه» الدنيا أعمى عن الحق فلم يقبله، ولم ينقد له، بل اتبع الضلال. فهو {في الآخرة أعمى} عن سلوك طريق الجنة كما لم يسلكه في الدنيا، وأضل سبيلا فإن الجزاء من جنس العمل، كما تدين تدان.

الوقفة الرابعة: المفاضلة في الآية ليست بين شخصين وإنما بين حالين.

ذكر ابن عاشور أن العمى في الدارين عمى ضلال عن السبيل الموصل، ومعنى المفاضلة راجع إلى مفاضلة إحدى حالتيه على الأخرى في الضلال وأثره لا إلى حال غيره، فالمعنى: وأضل سبيلا منه في الدنيا.

     ووجه كون ضلاله في الآخرة أشد: أن ضلاله في الدنيا كان في مكنته أن ينجو منه، بطلب ما يرشده إلى السبيل الموصل من هدي الرسول والقرآن مع كونه خليا عن لحاق الألم به، وأما ضلاله في الآخرة فهو ضلال لا خلاص منه، وهو مقارن للعذاب الدائم، فلا جرم كان ضلاله في الآخرة أدخل في حقيقة الضلال وماهيته.

     ولاشك أن العين بحاجة لقوة البصر لترى المرئيات، والقلب كذلك بحاجة إلى البصيرة ليرى الحقائق، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم  يسأل الله -تعالى- النور لقلبه وبصره وكل جوارحه فعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم  كان يقول: «اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، واجعل لي في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً» أخرجه مسلم قال النووي:  قال العلماء: سأل النور في أعضائه وجهاته، والمراد به بيان الحق وضياؤه والهداية إليه، فسأل النور في جميع أعضائه وجسمه وتصرفاته وتقلباته وحالاته وجملته في جهاته الست، حتى لا يزيغ شيء منها عنه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك