رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: إبراهيم محمد صدي 25 نوفمبر، 2019 0 تعليق

وقفة مع متهمي السلفية بالبُعد عن المنهج العلمي(1)


 

لم تزل الأصواتُ تعلو بنقدِ السلفية واتهامها حتى صارت مزعجةً لمن صدرت عنهم، وصارت أقرب إلى الصُّراخ والعويل منها إلى صوتِ العلم والعقل، وآل الناسُ في السلفية إلى أمر مريج، وقولٍ مختلف لا يتميَّز فيه حقٌّ من باطل، وحَسْبُ الناكثين عن الحقِّ المصرِّين على الحنث العظيم أن يوصِلوا دُعاة الحقِّ إلى مرحلةِ الشكِّ أو الارتباك، وهي غاية ما يصلون إليه؛ لأن سنةَ الله لا تسمَح لهم بغير ذلك؛ فسرعان ما ينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكِم آياته.

     وقد تنوَّعت تُهَم السلفية بعدَد أفواه المتكلِّمين من خصومِها، ولم تزل الخصومةُ بأعداء السلفية؛ فذمّوها بما ينبغي أن تمدَح به، وأوقَعهم التخلِّي عن شرف الخصومة الثقافيّة في بوائق فكرية ودينية، ليس لِمُتَكلم بها يَدان في الدفاع عما تَفَوَّهَ به، وصَرَّفوا التهمة ونوَّعوها حتى اتُّهموا بالشيء ونقيضِه.

البعد عن المنهج العلمي

     وكان مِن بين هذه التُّهم التي يدفعها الواقع، ويشهد العقل بخلافها: تهمة السلفية بالبعد عن المنهج العلمي واعتماد الوعظ الديني من أجل التأثير على الناس، هذا مع أن الوعظ بحدِّ ذاته ليس له أي دلالة سلبية في نصوص الشرع، وامتهان المرء له ما لم يوقعه في الكذب على الله وعلى رسوله ليس بمذموم.

تهمة لا تنهض

     وهذه التهمةُ تهمل مقوِّمات السلفية العلمية والموضوعية، وهي تهمة لا تنهض أمام البحث العلمي، أو التقرير الموضوعي، لكن الحماس للفكرة وسَكرة الغضب يُعميان المتكلِّم عن الحقائق التي لا يستطيع لها دفعًا إذا سكت غضبه ورجع إلى نفسه، والقارئ المنصِف حين يقرأ لبعض خصوم السلفية يجد بعضَهم يوقع نفسَه في مهالك ليس لها من تفسير إلا شهوة الكتابة والنقد، ومحاولة التلذُّذ بتَتفيه الخصوم واتهامهم بالباطل، ولنا وقفة مع متَّهمي السلفية بامتهان الوعظ والبعد عن المنهج العلمي، ولا بأس قبل ذلك أن نبيِّن مقوِّمات السلفية التي تنطلق منها:

مقوِّمات السلفية

     عادةً ما تأتي مثل هذه الاتهامات آنفةِ الذكر للسلفية، كتفسير للانتشار السلفي أو لتأثيره، في غفلة تامَّة عن المقومات المنهجيَّة والموضوعية للسلفية، وإهمال للسياقات التاريخية والسياسية والاجتماعية، في حين أن النشاطَ السلفيَّ لمن أراد تقويمه، لكي يكون موضوعيا لابدَّ أن ينطلق من منهجية موضوعية تراعي جانبين مهمين:

الجانب الأول

-  الجانب العلمي: ويدرس المنهجية العلمية المتّبعَة للسلفيين في الاستدلال لقضاياهم العقدية، ومنهجية آلاتها المعرفية وفحصها.

الجانب الثاني

     عوامل تأثير الفكرة في بيئتها وغيرها، وملاحظة نشاط أصحابها كما هو في الواقع، وتقويم النشاط سلبًا أو إيجابًا لابد أن يراعَى فيه أن النشاطَ نشاطٌ بشريّ، يحاكَم في جوانبه العملية والنظرية إلى مدى انسجامه مع الفكرة، وهل هو تحقُّق لها في الواقع، أم شهد تعثرات في تطبيقه؟ فحين يكون الخطأ سببه الخروج عن الفكرة، وعدم الالتزام بها نظريًّا أو عمليًّا؛ فإن الفكرة لا تتحمَّل مسؤولية المنتمي إليها مطلقًا، ولاسيما مع وجود إجراءات علمية في المنظومة الفكرية، يؤدِّي الالتزام بها إلى تفادي أي خطأ يحدُث أثناء التطبيق، وإلا لزم ترك العلوم والأفكار جميعها؛ لأنه ما من فكرة دينية، أو تجريبية، إلا ويُرتكب أثناء ممارستها أخطاء، هي نتاج تطبيق البشر لها، وليست وليدة الفكرة نفسِها، وهذا أمرٌ من الوضوحِ بدرجةٍ لا تحتاج إلى التمثيل، ومن ثم؛ فإنّ تفسير النشاط السلفي وتأثيره في الناس وشغله للرأيِ العام الدولي وغيره، لا يمكن مع إغفال مقوّمات السلفية المنهجية والموضوعية، التي تنتظم في الآتي:

المقوِّمات المنهجية

     فالسلفية من خلال تعريفها المتواضَع عليه عند المنتسبين إليها تعني: التزام ما كان عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العصر الأول عقيدةً وسلوكًا، واتباع طريقتهم في الفهم والاستدلال للمسائل وعليها، ومن ثم؛ فإن السلفية بهذا المفهوم غير محصورة في موضوعاتٍ معينة، سواء كانت عقدية، أم فقهية، ولا ينبغي حصرها في ذلك؛ فهي حياة متكاملة وفق المنهجية المذكورة. وهذه المنهجية واختزالها في موضوعات معينة من بعض منتسبيها، يعدُّ خطأ منهجيًّا، وخللًا معرفيًّا يتحمَّل صاحبه المسؤولية كاملة عنه؛ لأنه تقصير في البحث وقعود بالاجتهاد والتفكير في مرحلة معينة أو موضوع محدد، وقد تنبَّه علماء السلفية المعاصرة إلى هذا الخلَل، وإمكانية وقوعه من بعض المنتسبين للسلفية، واستغلال خصومهم لذلك؛ فنقدوا هذا المسلك، وكم من عالم تحسّر على تذويب دلالة مصطلح أهل السنة ومحاولة تطويعه للسياقات التاريخية والاجتماعية؛ ليعبر عن جانب واحد من جوانب العلم ويغفل ما سواه! وقد تساءل صاحب كتاب (أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى) عن منهج السلف وأصولهم في العقائد والمعرفة وضوابطها، وعن أصولهم في النظر والاستدلال، وعن علاقة بعضهم ببعض؛ فالسلف أنشؤوا حضارةً شاملة، ولا يمكن أن تكون هذه الحضارة مبنية على أسُس عقدية فقط، وهذه التساؤلات بطبيعة الحال من هذا الشيخ السلفي ليست دلالة على الحيرة ولا التخبُّط، وإنما المراد منها تبيين أن الإجابة عن السؤال أسهل من طرحه، ويمكن إيجاز المقومات المنهجية للسلفية في الآتي:

اعتماد الاستدلال القرآني

- أولا: اعتماد الاستدلال القرآني في قضايا المعتقد والتوحيد، والاكتفاء به عما سواه، وتنحصر مهمَّة المجتهد الشرعي في تفسير هذه النصوص وتقريبها، وتبيين كمالها وغناها في نفسها عما سواها من الأدلة، وكيف أن الأدلة تابعةٌ للقرآن، ويستحيل أن تزيد عليه أو تقرر شيئا في نفس المتلقِّي بدرجة أقوى من القرآن أو تقاربه؛ فالسلف كانوا يستخدمون الأدلة العقلية في إثبات العقائد، وفقا لما ورد في القرآن؛ فكانوا يستخدمون قياس الأولى، والأحرى والتنبيه في باب النفي والإثبات؛ فمسلك الإمام أحمد وغيره مع الاستدلال بالنصوص وبالإجماع، مسلك الاستدلال بالفطرة والأقيسة العقلية الصحيحة المتضمنة للأولى.

حصر مصادر التلقي

- ثانيا: حصر مصادر التلقي والاستنباط، وترتيبها ترتيبًا علميًّا موضوعيًّا، يتناسب مع الفكرة العامة، ويدرأ الخلل عن الأدلة عند التعارض، وهو متفرع عن المقوم المنهجي الأول، ومصادر التلقي محصورة في الكتاب والسنة بتفاصيلها من قول وفعل وتقرير، ثم ما أجمعت عليه الأمة من الأدلة أو معانيها، والقياس الجلي، وما عده أئمة الإسلام من فروع الأدلة، مثل المصلحة المرسلة، والاستحسان، وقول الصحابي، وعمل أهل المدينة، وما صدقته الظنون المعتبرة وغيرها، مما هو مقرر في أصول الفقه مفصَّل في الكتب.

اعتماد فهم الصحابة

- ثالثًا: اعتماد فهم الصحابة -رضوان الله عليهم- وتفسيرهم للقرآن؛ لأنه عليهم نزل، وبه خوطبوا أولا؛ فقولهم فيه مقدَّم على قول غيرهم؛ فهم الذين تمثَّلوا أوامر الوحي في الواقع، وأقرَّهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، «وبهذا يعرف قدر فهم الصحابة -رضي الله عنهم-، وأن من بعدهم إنما يكون غاية اجتهاده أن يفهم ما فهموه، ويعرف ما قالوه، وهذا يعني -بطبيعة الحال- رفضَ أيِّ تفسير يخالف تفسيرهم؛ لأنه يعد مناوئا له وبديلا عنه؛ فأمة محمَّد المخاطبة بالوحي ابتداء، لا يمكن تصويبها في مسائل الدين والإيمان والإسلام والأحكام؛ لأن هذا يعني وببساطة أن أمة محمد المخاطبة بالوحي ابتداء لم تفهمه على وجهه الصحيح، ومن أجل هذا كان السلفيون بالمرصاد لكل فكرة، أو تفسير يخالف فهم الصحابة في هذه الأبواب؛ لأنه لا يمكن أن يخالفهم ويبقى حقًّا في نفسه؛ لأن ذلك يلزم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين الوحي كما أمره الله، {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} (النحل: 44)، أو أنه بيَّن ولم يعقل عنه المخاطَبون من خاصَّة أهل الإيمان مرادَه، وكل هذا محال شرعًا ومستحيل عادة.

التطلُّع إلى التجديد

- رابعًا: التطلُّع إلى التجديد؛ فالسلفية وإن أحالت من خلال مضمونها اللغوي إلى الماضي والرجوع إلى السلف، لكنها في قالبها المنهجي لا تعني الانحسار في زمن معين، بل تعد التراكمات، وتبني على ما سبق، وتعد الصورة الناصعة للدين، هي صورته الأولى في الكون، التي أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على تصحيح فهوم أصحابها وتطبيقهم للدين؛ فما جاء بعد ذلك من الشوائب البدعية والخرافات فهو محاولة طمس للدين، ومهمة السلفي العالم أن يجدِّد الدين ويعيد إليه نصاعته الأولى، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها».

     قال ابن القيم -رحمه الله-: «ولهذا لما سلَّط المحرفون التأويلاتِ الباطلةَ على نصوص الشرع، فسَد الدين فسادًا لولا أن الله -سبحانه- تكفَّل بحفظه وأقام له حرسًا وكلهم بحمايته من تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين لجرى عليه ما جرى على الشرائع السالفة، ولكن الله برحمته وعنايته بهذه الأمة يبعث لها عند دروس السنة وظهور البِدعة من يجدِّد لها دينها، ولا يزال يغرس في دينه غرسًا يستعمِلهم فيه علمًا وعملًا».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك