رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 19 أكتوبر، 2015 0 تعليق

وقفات مع نهاية العام الهجري

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: (وقفات مع نهاية العام الهجري)، التي تحدَّث فيها عن انصِرام الأعوام، وانقِضاء الليالي والأيام، مُتمثِّلاً في انتِهاء العام الهجري بعد أيام، وما ينبغي على المُسلمين أن يقِفوا من وقفاتٍ للعبرة والعِظة، والتفكُّر فيما مضَى من أعمالٍ صالِحة وغير ذلك، وضرورة اغتنام الأوقات فيما ينفعُ دُنيا وأُخرى، كما لم ينسَ التذكيرَ بما يُعانيه إخواننا المسلمون في فلسطين والشام.

     أيها المسلمون: في هذا الأوان الذي جدَحَت فيه يدُ الإملاق كأسَ الفراق، وأوشكَ العامُ على التمام والإغلاق، والتحدياتُ المُحدِقةُ بالأمة عديدة، والأحوالُ أزماتُها شديدة، والأيامُ في لُبِّها بالأماني مُبديةٌ مُعيدة، لابُدَّ لأهل الحِجَى من وقفات، للعِبرة ومُراجعة الذات، والتفكُّر فيما هو آت.

وهذا ديدَنُ المُسلم الأريبِ اللوذَعيِّ، ومنهجُ اللَّقِن الأحوَذيِّ، حتى لا ينعكِس الأمل، أو يستنوِقَ الجمل، فيُبصِرُ كل إنسانٍ وَسمَ قِدحه، فتترقَّى همَّتُه، وتصفُو نفسُه، وتحسُنُ سيرتُه وسريرتُه.

     معاشر المسلمين: الوقفةُ الأولى: وقفةُ اعتبارٍ وعِظة؛ لما في مرور الأيام والليالي من عِبرةٍ وموعِظة، فكم من خُطواتٍ قُطِعت، وأوقاتٍ صُرِفت، والإحساسُ بمُضيِّها قليل، والتذكُّر والاعتبارُ بمُرورها ضئيل، مهما طالَت مُدَّتُها، وعظُمَت فترتُها، وربما دامَت بعد ذلك حسرتُها.

ولا يتبقَّى من الزمان إلا ذكرَى ما تبدَّى، وطيفُ ما تجلَّى، وها هو انقلبَ بما لنا وما علينا في مطاوِيه، وآخرُ استهلَّ شاهِدًا على مُضيِّ الدهر في تعادِيه. فاللهم إنا نسألُك أن تُبارِك للأمة فيما قدَّرتَ فيه.

وليكُن منكم بحُسبانٍ - يا رعاكم الله -: إن الزمنَ أنفاسٌ لا تعُود، فمن غفلَ عنه تصرَّمَت أوقاتُه، وعظُم فواتُه، واشتدَّت حسراتُه، فإذا علِم حقيقةَ ما ضاع، طلبَ الرُّجعَى فحِيلَ بينَه وبين الاستِرجاع.

ومن لم يتَّعِظ بزوال الأيام، ولم يعتبِر بتصرُّم الأعوام، فما تفكَّر في مصيره ولا أناب، ولا اتَّصَف بمكارِم أُولِي الألباب، يقولُ الرحيمُ التواب: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} (آل عمران: 190).

     فما أحوجَ أمَّتنا في هذه السانِحة البينيَّة أن تنعطِفَ حِيالَ أنوار البصيرة، فتستدرِك فرَطَاتها، وتنعتِقَ من ورطَاتها، وتُفعَمَ روحُها بمعاني التفاؤُل السنيَّة، والرجاءات الربانيَّة، والعزائِم العليَّة، وصوارِم الهِمَم الفتيَّة، كي تفِيءَ إلى مراسِي الاهتِداء والقِمَم، وبدائِع الخِلال والقِيَم، على ضوء المورِد المَعين، والنبع الإلهيِّ المُبين: هديِ الوحيين الشريفين، مُستمسِكةً بالتوحيد والسنَّة بمنهَج سلَف الأمة.

تحقيقًا لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم : «تركتُ فيكم أمرَين لن تضِلُّوا ما تمسَّكتُم بهما: كتابَ الله وسُنَّتي»؛ أخرجه مالك في (الموطأ).

- أمة الإسلام: والوقفةُ الثانية: وقفةٌ لإلهاب الهمَّة في نفوس الأمة، كي تعتلِيَ الذُّرَى والقمَّة، وإذكاء جُذَى الأمل والتفاؤُل في أطواء الشباب، كي يستنفِرَ قُدراته وملَكَاته، وكفاءاته وانتِماءاته. فكم اتَّخذَت الأمةُ في عامها المُتصرِّم من قرارٍ عظيم، وكم حقَّقَت من نصرٍ مُبين تسنَّمها (عاصفةُ الحزم) الميمونة، التي جسَّدَت الوحدةَ والتلاحُم بين أبناء الأمة رُعاةً ورعيَّة، وحقَّقت النُّصرةَ لجارٍ مضُوم، وشعبٍ مكلُوم، وصدَّت الظالِمين المُعتَدين.

     وكم بذلَت بلادُ الحرمين الشريفين جرَّاء هذا القرار الشُّجاع والموقف النبيل من دماءٍ طاهرة، صعِدَت أرواحُها إلى بارِئها، لإعادة الأمل، فكان الأملُ بعد الحزم نورًا يُضيءُ البصائِرَ والأبصار، ويبعَثُ في النفوس البِشرَ والضياء، بعدما آتَت (عاصفةُ الحزم) ثِمارَها، وحقَّقَت أهدافَها، بفضل الله ومنَّته.

وإن على الإخوة في يمن الإيمان والعلم والحِكمة أن يتَّحِدوا للوقوف مع الولاية الشرعيَّة، وعدم الإصغاء لدُعاة الفتنة والضلالة.

     وعزاؤُنا أن من قضَى من جُنودِنا البواسِل في الحدِّ الجنوبيِّ نحسبُهم عند الله من الشُّهداء، {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتًا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (آل عمران: 169، 170}.

معاشر المسلمين: ومع تجديد الشُّكر للمُنعِم المُتفضِّل - سبحانه - على ما منَّ به على الحَجيج من إتمام مناسِكِهم، بكل تميُّز ونجاح، فلا يفُتُّ عزمَكم ما اعتوَرَه من فلَتَات الحوادِث بين مطاوِي الزمان.

وإن القلبَ ليعتصِرُه الحزنُ والأسَى على ما أصابَ بعضَ حُجَّاج بيت الله الحرام من حوادِث عرَضِيَّة لا تُنسينا الإيمان بقضاء الله وقدَره، في صفاء الأمر وكدَره. نسأل الله أن يتقبَّل موتاهم في الشهداء، وأن يشفِي مرضاهم.

ألا يا ربِّ أسعِدهم بعفوٍ

                                   ومغفرةٍ يَطيبُ بها الثوابُ

إذا كتبَ الإلهُ مضَى الكتابُ

                                   فلا بابٌ يُصدُّ ولا حجابُ

ولا حذرٌ من الإنسان يُجدِي

                                   ولا جبلٌ يحُولُ ولا هِضابُ

ومع ذلك كلِّه، فإنه لا يحِقُّ لأي شخصٍ أو كِيان - كائنًا من كان - أن يجعلَ من هذه الأحداث العارِضة مجالاً للمُزايَدات، أو إلقاء اللَّوم وبثِّ الشائِعات، ضدَّ الجُهود الجبَّارة التي تبذُلُها بلادُ الحرمين في خدمة ضُيوف الرحمن.

وإن لبلاد الحرمين الشريفين يدًا حازِمة لا تتهاوَنُ مع المُتلاعِبين بأمنها وأمانها، ولا تُهدهِدُ من يُحاولون التغريرَ بعقول شبابِها، أو يُؤلِّبون عليها أفئِدةَ العباد في أصقاع البلاد.

كما أنه ليس من العدل والإنصاف أن تُصادَر كل الجهود والإنجازات لحادثةٍ أو واقِعة، تُبذلُ أقصَى الطاقات والإمكانات لتفادِيها ومثيلاتها في الأماكن المُقدَّسة طوال العام.

وجهود المملكة - حرسَها الله - لن تنسِفَها أقاويلُ المُبطِلين، الذين لا يُحسِنون إلا التشكيكَ والإرجاف، وهذه الحملةُ الإعلاميَّةُ المُمنهَجة القائمةُ على ترويجِ الأكاذِيب، واختِلاقُ الوقائِع، هي مُحاولةٌ يائِسة من فئةٍ بائِسة، للنَّيل من مكانتها.

والخدماتُ الجُلَّى المُقدَّمة في الحجِّ هي أكبرُ ردٍّ عمليٍّ على هؤلاء المُشكِّكين، وجهودُ رجال الأمن وعطاؤُهم النادِر في خدمة الحَجيج خيرُ شاهِد.

فالعملُ الكبيرُ الذي يقوم به رِجالُ أمننا، والعامِلون في خدمة الحَجيج بمُختلف قِطاعاتهم يندُرُ أن يوجد مثلُه في أنحاء العالَم. فهمُ الأشدَّاءُ الأقوياءُ على الأعداء، الرُّحماءُ الأوِدَّاءُ على المُسلمين والضُّعفاء، ولكن هذه سُنَّةُ الله في الكَون، فكلُّ ذي نعمةٍ محسُود.

     وستظلُّ بلادُ الحرمين - بإذن الله - واحةَ أمنٍ واستِقرار ضدَّ مُخطَّطات العبَث بأمنها، وستبقَى قبلةَ الإسلام ومهوَى الأفئِدة، ومن رامَها بسُوءٍ هلَكَ دون مرامِه. لا مجالَ ولا حظَّ للنَّيل منها، أو المُساوَمة والمُزايَدة على جهودها ومكانتها، فلها - بحمد الله - الريادةُ والقيادةُ والسيادةُ على الحرمين الشريفين، بل في إحلال الأمن والسِّلم الدوليَّين.

وهذه الأحداثُ تُوجِبُ علينا وقفةً جماعيةً جادَّة للتصدِّي الحازِم للمسالِك الضالَّة المشبُوهة، التي تنامَت في الآوِنة الأخيرة، وتمثَّلَت في تفجير المساجِد، واغتيال المُصلِّين، وذوي الأرحام والأقارِب، في مشاهِد مُخزِية من فِئامٍ شوَّهوا صورةَ الإسلام بنقائِه وصفائِه وإنسانيَّته، وانحرَفُوا بأفعالهم عن سماحته واعتِداله ووسطيَّته.

والعجبُ أنهم يفعَلون ذلك باسم الدين، وينشُرونه على مرأًى ومسمَعٍ من العالَمين. أيُّ ضلالٍ ملأَ عقولَهم، فاستحلُّوا الدمَ الحرام، وانتهَكوا الحُرُمات، واعتَدَوا على بيوت الله في الأرض.

     غيرَ أن ذلك لا يُسوِّغُ أبدًا إلصاق تُهمة الإرهاب بالإسلام؛ مما يتطلَّبُ تحصينَ الشباب الأبِيِّ من الفِكرِ التكفيريِّ، وتنظيم (داعِش) الإرهابيِّ، وحنوِه من المناهِج الضالَّة، والمسالِك المُنحرِفة. وما يُقابِلُها من موجات التشكيك والإلحاد، وهزِّ الثوابِت والقِيَم، والنَّيل من المُحكَمات والمُسلَّمات.

- أمة الإيمان: غيرَ أن هذه الأحداث المُلِمَّة، والفواجِع المُؤلِمة لا ينبغي أن تُنسِيَنا قضيَّتَنا الكُبرى قضيةَ فلسطين والأقصَى، وما يلُفُّها في هذه الآوِنة بالذات من مآسٍ مُتعدياتٍ وانتِهاكاتٍ، واستِطالةٍ سافِرة في الهَدمِ والحِصار والاقتِحامات والمُستوطنَات والاعتِداءات.

لذا وبراءةً للذمَّة، وإعذارًا للأمة: ننُاشِد قادَة المُسلمين، وأصحابَ القرار في العالَم التصدِّي بكل قوةٍ وحزمٍ، لوقف التهديداتِ الصهيونيَّة، والتنكيلات اللاإنسانيَّة، ضدَّ إخواننا في فلسطين وقُدسِنا السَّليب.

     ولا يُمكن أن ننسَى إخواننا في بلاد الشام، الذين طالَت مُعاناتُهم، ودخلَت عامَها الخامس دون تحرُّكٍ فاعلٍ لإنقاذِهم من آلة القتل والتدمير والتهجير، في أكبر كارِثةٍ إنسانيَّة يشهَدُها التأريخُ المُعاصِر، من أُناسٍ لا يرقُبون في مُؤمنٍ إلاًّ ولا ذمَّة، وأولئك هم المُعتَدون.

مما يتطلَّبُ من إخواننا في بلاد الشام الأبيَّة توحيدَ الكلمة، ورصَّ الصفوف والاعتِصام، وعدمَ التفرُّق والاختِلاف والانقِسام.

     مُتفائِلين مع كل ذلك بالنصر المُؤزَّر القريب، {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (الأنفال: 45، 46).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك