رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أحمد الشحات 4 أبريل، 2023 0 تعليق

وقفات مع قصة يوسف -عليه السلام  (2)  المشهد الأول: يوســـف عليه السلام في بيت أبيه

قصة يوسف -عليه السلام- قصة تحكي معاناة نبي من أنبياء الله -تعالى- وتعرضه لصنوف من المحن والابتلاءات، محنة كيد الإخوة، ومحنة الخوف والترويع في قعر الجب، ومحنة الرق والعبودية، ومحنة الإغراء وسطوة الشهوة في بيت امرأة العزيز، ومحنة السجن بعد رغد العيش في القصر، ثم محنة النصر والتمكين وهو يتحكم في أقوات الناس، وفي يده خزائن طعامهم، وأخيراً محنة المشاعر الإنسانية وهو يواجه إخوته الذين ألقَوه في الجب، وكانوا السبب المباشر لكل هذه المحن والابتلاءات التي تعرض لها، ولنا مع هذه القصة وقفات نستعرضها من خلال هذه السلسلة.

     بدأت فصول هذه القصة برؤيا رآها يوسف -عليه السلام-، ورؤيا الأنبياء وحي، إلا أن يوسف وقتها كان صبيا صغيرًا لم يوح إليه بعد، ولكنها رؤيا صادقة تأولها له أبوه يعقوب -عليه السلام- بأن الأحد عشر كوكبا كناية عن إخوته، وكانوا أحد عشر رجلا سواه، والشمس والقمر كناية عن أبيه وأمه، وقد وقع تفسيرها بعد عقود عدة من السنين، وذلك حين رفع أبويه على العرش، وإخوته بين يديه وخروا له سجدا، وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا.

لا تقصص رؤياك على إخوتك

     وحينما حكى يوسف هذه الرؤيا لأبيه فهم أنها تعنى خضوع إخوته له، وتعظيمهم إياه تعظيما زائدا؛ بحيث يخرون له ساجدين إجلالا واحتراما وإكراما، فخشي يعقوب -عليه السلام- أن يحدِّث بهذا المنام أحدا من إخوته فيحسدوه على ذلك، ويبغوا له الغوائل حسدا منهم له، ولهذا قال له: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}، أي يحتالوا لك حيلة يُرْدُونك فيها، ولم ينس يعقوب -عليه السلام- أن يعلم ولده الصغير درساً في شكر نعمة الله والدينونة له بالفضل؛ فبشره بأن الله سيختاره ويصطفيه لنبوته ويعلمه من تأويل الرؤى.

إخوة يوسف

     وإخوة يوسف الأحد عشر كانوا مِن أمٍّ غيرِ أم يوسف، بينما يوسف وأخوه بنيامين كانا من أم أخرى، وقد جلس إخوة يوسف ذات مرة يتناجون فيما بينهم، أن أباهم يفضل يوسف وأخاه بنيامين عليهم في المعاملة وهم العصبة، أي: الجماعة، ولم يتركوا لأنفسهم فرصة للبحث عن إجابة شافية لهذا الاستشكال، فربما يكون ظنهم خطأ، وربما يكون قد صدر منهم - رغم أنهم الأكثر عدداً - ما يوغر صدر أبيهم عليهم أو غيرها من الأعذار التي من المفترض أن يتباحثوها إذا توفر لديهم الإنصاف والرغبة الصادقة في الوصول إلى الحقيقة.

حلول إجرامية

     ولكن العجب أنهم تجاوزوا كل ذلك، وانتقلوا مباشرة للحديث عن حلول إجرامية للمشكلة التي يعانون منها، فمنهم من اقترح قتل يوسف، ومنهم من اقترح إلقاءه في أرض بعيدة يهلك فيها أو يضيع، وأمثلهم طريقة - وليست بمُثلى - من اقترح أن يلقوه في قعر بئر مظلم، وكأنه جمع بهذا الاقتراح بين إبعاده عن أبيه مع عدم التورط في جريمة قتل لصبي صغير كما كان يقترح إخوته.

رسائل من قلب الحدث

     تتجلي في هذا المشهد من القصة معانٍ عدة أساسية، أبرز القرآنُ ملامحَها من خلال الآيات، فتجد إشارة عن القرآن وعن منزلته، وإشارة عن القصص القرآني وهدفه، وإشارة إلى الأمراض القلبية التي تعتري النفس البشرية وتفسد عليها علاقتها بربها، ثم إشارة إلى نوع من المشكلات التي من الممكن أن تنشأ داخل البيوت، وبين أفراد الأسرة الواحدة، وأنه رغم روابط الدم والقرابة بين الإخوة إلا أن البعد عن الله، والوقوع في أسر الهوي والشيطان، قد يمزق هذه الروابط، ويهدم هذه الوشائج.

عداوة الشيطان

     إلا أن المعني الأبرز في هذا المقطع من السورة يتمثل في إرشاد البشر إلى عداوة الشيطان لهم، وقد عبر القرآن عن هذه العداوة بالمعنى المباشر الواضح في قوله {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، فهذه حقيقة ثابتة من حقائق الحياة الدنيا، مهما غفل عنها الغافلون، أو تناساها المفرطون، ثم أردف القرآن هذه الحقيقة بأخرى لا تقل عنها أهمية، وهي أن الشيطان هو المحرك الأول لكل المعاصي والجرائم التي يرتكبها الإنسان، فتسلطه عليه من خلال الوسوسة يفسد عليه قلبه وعقله، وهنا ترى من خلال القصة أنه تسلَّط على إخوة يوسف بتزيين علاقة أبيهم بولده الصغير على أنها تمييز واضح، وظلم بين؛ مما تسبب في وقوع الغيرة والحسد في قلوبهم، هذه الغيرة أسلمتهم إلى التفكير في قتله والتخلص منه، ولأن هذه نتيجة قبيحة وسيئة وترفضها الطباع السوية، أوقعهم في الأماني والغرور بأنهم سيتوبون بعد الانتهاء من الجريمة تحت غطاء حسن الظن بالله والأمل في عفوه.

ملامح النفسية الإبليسية

     من هنا كان التعرف على ملامح النفسية الإبليسية ومحاولة سبر أغوارها مطلبا مهمّا، وعاجلا لكل إنسان يسير على ظهر هذه الأرض؛ وذلك لأن الشيطان هو العدو اللدود للإنسان، فما دام في المرء نَفَس يتردد، فإن الشيطان متربِّص له، مستعد للوثوب عليه؛ لذا فلا يليق بعاقل أن يغفل عن طبيعة عدوه، أو يجهل طريقة مَكْره، وإلا فسيقع فريسة سهلة في حبائل خداعه وكيده.

طبيعة نفوس الشياطين

     كما أن هذه المعرفة تزداد أهميتها وتتعاظم كلما كان الإنسان من أهل الإيمان والإسلام؛ لأن الشيطان قد فرغ من الكفار دفعة واحدة؛ وذلك بإخراجهم من عبودية الرحمن إلى عبوديته مباشرة، وما ألطف تعليق ابن عباس -رضي الله عنه- عندما ذُكر له أن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها، فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب؟!

     وفي دراسة طبيعة نفوس الشياطين فائدة كبيرة وهي: أنها تسهل طريقة التعرف على أوليائه من الإنس، وتيسر طرائق الاهتداء إلى مكرهم وفسادهم، ومن ثمَّ معرفة وسائل مواجهتهم، خصوصاً وأن بعض الناس قد يبتليهم الله بأمراض قلبية هي من جنس أمراض إبليس، وعندها سيكون إيمان هؤلاء على خطر عظيم إذا لم يتداركوا أحوالهم، ويبذلوا الوسع في تهذيب نفوسهم.

صفات إبليس

     ثم إن القرآن أفاض في ذكر صفات إبليس، وأفرد مساحة واسعة لفضح هذه النفس الخبيثة والتحذير منها، فالشيطان هو داعية الفساد والفجور الأول، قال -تعالى-: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:27).

نشر العداوة بين المؤمنين

     وهو يسعى دائماً لنشر العداوة بين المؤمنين، قال -تعالى-:- {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرّواْ لَهُ سُجّدَاً وَقَالَ يا أَبَتِ هَـَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيَ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نّزغَ الشّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيَ إِنّ رَبّي لَطِيفٌ لّمَا يَشَآءُ إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (يوسف:100).

إيذاء المؤمنين وإيقاع الضرر بهم

     كما أنه يحرص على إيذاء المؤمنين، وإيقاع الضرر بهم، قال -تعالى-: {إِنّمَا النّجْوَىَ مِنَ الشّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئاً إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (المجادلة:10). وقال -تعالى-:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الشّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (ص:41).

يُمنّي الإنسان ويغرر به

     ومن جرائمه مع الإنسان أنه يمنيه ويغرر به، قال -تعالى-: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً} (النساء:120). وقال -تعالى-: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ في الأمْوَالِ وَالأوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً} (الإسراء:64).

الخيانة والغدر بالإنسان

     ومن صفاته الدنيئة الخيانة والغدر بالإنسان، قال -تعالى-: {وَقَالَ الشّيْطَانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إِنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوَاْ أَنفُسَكُمْ مّآ أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيّ إِنّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (إبراهيم:22).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك