رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: عبدالحق التركماني 12 نوفمبر، 2018 0 تعليق

وقفات مع المفهوم الجمعي للأمة وفقه أحاديث الفتنة والخروج


قال -تعالى-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ. فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} (الأنبياء: 92-94)، والأمة (في سياق هذه الآية) هي: الدِّين، والملة، والمخاطبون هم أتباع الدين وأبناء الملَّة؛ حيث يُكوِّنون بمجموعهم نسيجًا واحدًا، مجتمعًا على ملَّة واحدة، وبقدر اختلافهم فيها يكون تفرقهم؛ لهذا أمرنا الله -تعالى- بالأمرين معًا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103).

الصالح والطالح

     هذه الأمة فيها الصالح والطالح، والسني والبدعي، والمحسن والمسيء، كما قال -تعالى-: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر: 32)، وكذلك فيهم العادل والظالم سواء كان حاكمًا أم محكومًا؛ فلا بد أن يتعايشوا جميعًا في إطار: (الأمة)، وإن تظالموا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10).

المفهوم الجمعي

     هذا المفهوم الجمعي هو المقصود بحديث: «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَلَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَألَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ»، فأجاب الله -تعالى- دعاء نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - بألا يسلِّط على هذه الأمة عدوًا يقضي على كيانها، ولكن يبتليها بالفتن الداخلية: «حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا» (أخرجه مسلم).

المحافظة على كيان الأمة

     وللمحافظة على هذا الكيان تواترت الأحاديثُ بالنهي عن القتال بين المسلمين، وبالأمر باعتزال الفتن ولزوم البيوت، واختيار أن يكون المسلمُ مقتولًا لا قاتلًا. كما تواترت الأحاديثُ بالصبر على ظلم بعض الحكام وجورهم، والنهي عن الثورة والخروج عليهم؛ مهما انحرفوا وظلموا، إلَّا في حالة واحدة هي: الكفر البواح، ومنع الصلاة.

الماديون وطلاب الدنيا

     ينظر الماديون وطلاب الدنيا إلى أحاديث الأمر باعتزال الفتن بأنها تصنع إنسانًا جبانًا، يتَّخذ موقفًا سلبيًّا من الحوادث! فيتجاهلون تلك الأحاديث؛ لجهلهم بالمقصد النبويِّ الذي لا يفهمه. وقد قال لي مستشرق سويديٌّ: إن فقهاءكم يسمون الثورة: (فتنة)؛ ليحافظوا بذلك على كيانهم! أقول: نعم، إنه المحافظة على كيان الأمة بمنع المغالبة على الدنيا، والمسارعة إلى المكاسب المادية، وعدم الصراع من أجل مصالح شخص أو حزب أو جماعة.

مواجهة التيارات البدعية

     ينبغي علينا في مواجهة التيارات الحركية البدعية: ألا نكتفي بذكر أحاديث النهي عن الفتنة والخروج، بل لابدَّ أن نبيِّن فقهها وارتباطها بالمفاهيم الكلية التي تحافظ على مصالح الأمة. فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ترك لنا دينًا هاديًا، جامعًا لمصالح الدنيا والآخرة، موافقًا للعقول السليمة والفطر السوية، ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إشارات حكيمة في هذا المجال، وطبقها في دعوته؛ فواجه جميع الانحرافات في الأمة، لكنه لم يواجه حكَّام زمانه، بل اتَّخذ منهم موقفًا حكيمًا يراعي المصلحة العامة، وأكثرَ من التأكيد على المنع من الثورة والخروج؛ لهذا يطعن فيه المستشرقون، والفرق المبتدعة، ويتهمونه بالتحالف مع السلطة لبث أفكاره، والحقيقة أنه لم يواجه السلطة، وتعامل معها بحكمة بالغة لغايةِ جمعِ قوى الأمة في مواجهة التيارات المهدِّدة لكيانها.

الحزبية البغيضة

     الحزبية البغيضة تربِّي أبناءها على تقزيم مفهوم الانتماء للأمة، وتغليب مصلحة الحزب والجماعة، وعن هذه التربية نشأت تيارات التكفير والتفجير، لقد صرح أحد أكبر مؤسسي الجماعات الإسلامية الموجودة الآن في: (رسائله) بأن دعوته معيار للحق والولاء والبراء، فماذا بقي إذا من مفهوم الانتماء إلى الأمة، والمحافظة على كياناتها، والدفاع عن دولها بغضِّ النظر إن كان حكامها صالحين أو طالحين؟! وما تسارع الحركيون إلى تأييد الحريق العربي وتدمير كيانات الأمة إلا لتضييعهم لهذا المفهوم، وما محنة اليمن اليوم إلا نتيجة من نتائجه.

تدمير الانتماء للوطن

     لقد عمل الحركيون على تدمير الانتماء للوطن، ووصفوه بالوثن، فظن بعضهم أنه بسبب حملهم لفكر الانتماء للأمة، والحقيقة أنهم منشَقُّون عن الاثنين معًا، فكلُّ وطنٍ مسلمٍ هو جزء من الأمة؛ فالمحافظة عليه والنظرة الأولوية له إنما هو صيانةٌ لجزء من كيان الأمة؛ فلا منافاة بين مفهوم الانتماء لكلٍّ منهما.

     لقد عبَّر الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- عن هذا المفهوم، فلم يطلب الملْكَ لنفسه، بل رجع إلى كيان قائمٍ: (إمارة الدرعية)، فكان الإصلاح من الجزء إلى الكلِّ، وليس بتدمير الكلِّ لمصلحة الجزء.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك