وقفات مع الآباء والأمهات في بدء نصف العام الدراسي
منظرٌ جميلٌ ومشهدٌ زاه أن ترى فتىً غضاً طرياً في أحسنِ حلةٍ، وأبهى طلعةٍ ينوء بحمل حقيبته، متأبطاً كتبه، متوجهاً إلى محضن التربية ومنهل العلم ومنبع الثقافة ومأرز الدين والخير، إنه مشهدُ الآلاف تتجه زرافاتٍ ووحداناً إلى المدارسِ والمعاهدِ والجامعاتِ، إنه منظرٌ يسرُ الناظرَ لمجدِ أمتهِ، الطموحَ لعزِ دينه ومجتمعه، عند ما يرى العلمَ يسري في دماء شبابِ الأمةِ، إنه منظر في طريقٍ لا يؤدي في النهاية إلا للعزِ والرفعةِ وتأمينِ العيشِ، وهل أمةٌ سادت بغيرِ التعلمِ، وأعلى من ذلكَ وأجل: «من سلكَ طريقاً يلتمسُ فيه علماً سهلَ اللهُ به طريقاً إلى الجنةِ» رواه مسلم، ولنا مع عودةِ الطلابِ ومع بدايةِ نصف العامِ الدراسيِ الثاني وقفات.
دور الآباء والأولياء
ما دورك أيها الأب؟ إننا بحاجة إلى أبٍ يعي ويفقه متطلبات الشباب وحقوق البنوة على الأبوة، إن بعض الآباء يعتقد أن دوره لا يتعدى شراءَ الكراريس والأقلام وتسجيل الأبناء، ويقول انتهى دوري عند هذا الحد فأحسنُ اللباس ألبسته، وأحسنُ المدارس أد خلته، سيارةٌ بالسائق إلى المدرسة تُقله، والدراهمُ تملأُ جيبه ... وأظن أن دوري انتهى عند هذا الأمر، فماذا تريدون مني!
نقول: نعم بارك الله فيك جميلٌ منك هذا؛ فهذا واجب النفقة وقد أديته بكل اقتدار وأنت مأجورٌ على ذلك إذا احتسبت ذلك عند الله؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أفضل دينار ينفقه الرجل دينارٌ ينفقه على عياله، ودينارٌ ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله» رواه مسلم، وله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك».
إنه من الخطأ أن يهتم بعض الآباء والأمهات بهذا الجانب جانب النفقة وتوفير الملبس والمأكل والمشرب دونما عناية بالجانب الأهم، وهو الاهتمام بالمخبر لا المظهر وخدمة القلب والروح.
والله -جل وعلا- يقول: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة:197)، ويقول جل ذكره: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (الأعراف:26).
ليست مهمة المدرسة فحسب
أيها الآباء والأولياء: إن مهمة التربية والتعليم ليست مقتصرةً على المدرسة فحسب بل لكم فيها النصيب الأكبر، فأنت أيها الأب تتحمل المسؤولية الكبرى لتعليم ولدك وتربيته ومتابعته؛ فالوالد هو المخاطب بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم:6)، وهذه الآية أصل في تعليم الأهل والذرية، قال علي رضي الله عنه عن هذه الآية: {قُوا أَنْفُسَكُمْ..}: أي: «علموهم وأدبوهم»، رواه الحاكم وصححه، وذكر ابن كثيرٍ - رحمه الله - في تفسيره عن الضحاك ومقاتل - رحمهما الله -: حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه. أهـ (8/167).
نقول هذا أيها الأحبة: في غمرة مشاغل الأب وكثرة وظائفه وارتباطاته وأعماله؛ فهو قد يغفل عن تفريغ نفسه لتعليم أهله وولده. قد يقول قائل: إن المدرسة تقوم بهذا ! فيقال إن هذا لا يعني أن نُسقط التبعة عن الآباء ونلقي بالمسؤولية على كاهل المدرسة وحدها؛ لأن الوالد هو المربي والمدرس الأول فـ«كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».
التربية الإسلامية
إن الأب مطالب بتربية ابنه التربية الإسلامية، وهكذا كانت تربية الجيل الأول لأولادهم، روى البخاري في صحيحه عن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلاماً في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت يدي تطيش في الصحفة؛ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا غلام، سم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك» قال عمر: «فما زالت تلك طعمتي بعد. وقال سعد: «كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله كما نعلمهم السورة من القرآن».
الأب مع المدرسة
إن الأب مع المدرسة صنوان وعمودان لخيمة نجاح الأبناء، لكن المدرسة تشتكي أباً لا يزورها ولا يحضر مجالس الآباء، بل إذا حصلت مشكلة أو أزمة لابنه مع المدرس أو مع زملائه لا يكلف نفسه أن يسأل عن ملابسات الأمر.. المدرسة تشتكي أباً لا يطلع على التقارير الشهرية! ولا يتابع واجبات أولاده ولا يساهم في تقويمهم وتسديدهم..
أخي الأب، إن حضورك ولو مرة في الشهر مهمٌ في تربية أبنائك لأمور عدة:
1- في ذلك تشجيع وتحفيز له على التحصيل وباعث له على التفوق -بإذن الله-، كما أن ذلك يشعره بالثقة والاطمئنان لقرب أبيه منه.
2- قد يكون الابن يعاني مشكلة أخلاقية أو نفسية أو صحية كضعف نطق أو نظر لا يعلمها الأب، وهذه المشكلة هي سبب في ضعف تحصيله وتقدمه، فيساهم حضور الأب وتفاعله في حلها وعلاجها.
3- الزيارة لها دورٌ إيجابي على الابن؛ فبعض الطلاب في المنزل يكون هادئاً مؤدباً أمام والده هيبةً وخوفاً، ولكنه في المدرسة على النقيض من ذلك فهو مزعج أمام مدرسيه وزملائه! ولو زار الوالد المدرسة لحل مثل هذا التناقض وهذه الازدواجبة ومنها يعرف الوالد طبيعة ولده.
تفهم رسالة المعلم
إن الأب مطالب أن يتفهم رسالة المعلم ويؤازرها لا أن يحطمها ويدمرها، إن مدارسنا - بحمد لله - ملأى بالأساتذة الصالحين والمعلمين المربين الذين هم على قدرٍ عال من الأمانة والمسؤولية؛ بل ويساعدون في نمو الشاب عقلياً وفكرياً ونفسياً لكننا نجد الأب -مع الأسف- ينسف هذا كُلَهٌ شَعُرَ أم لم يشعر، درى أم لم يدر!
فالمدرس الذي يعلم الطالبَ أن الغناءَ والدخانَ حرامٌ، ووالده يناقض ذلك فيرتفع صوت الغناء في منزله وسيارته، بل ويجعل الابن وسيلةً لشراء الدخان!
والمدرسة تعلم الأبناء والبنات أن الخلوة مع المرأة الأجنبية حرام، ووالدهم يناقض ذلك فيجعل الفتاة وهي في المرحلة المتوسطة أو الثانوية أو الجامعية تذهب مع السائق بلا محرم، والوالد لا يرى غضاضة في الخلوة بالخادمة في المنزل! فكيف نريد للمدرسة أن تؤدي دورها وبعض الآباء يهدمون؟!
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه
إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
وما أكثر الهادمين في هذه الأيام فالشاشة تهدم، والمجلة الهابطة تهدم، ومواقع الانترنت غير اللائقة تهدم، والشارع يهدم، وصحبة السوء تهدم..
أرى ألف بانٍ لا تقوم لهادم
فكيف ببان خلفه ألفُ هادم
ومن عجب أن بعض الآباء يترك مسؤولية أبنائه وبيته، ويقول: أهم شيء عندي أن ينجح ويكفل نفسه وهو حر وتعلمه دنياه، ويتركه سِلماً للعوادي..
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
يا هذا أذكرك بقولَ النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله سائل كل رجل عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته»، (رواه ابن حبان وإسناده حسن)، وقولََه صلى الله عليه وسلم : «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته»، (متفق عليه).
حقوق المعلمين والمعلمات
معشر الآباء والأمهات، الله الله في حقوق المعلمين والمعلمات، اغرسوا في قلوب أبنائكم وبناتكم حب العلم والعلماء، و إجلال المعلمين والمعلمات وتوقيرهم واحترامهم طلباً لرضا الله سبحانه وتعالى، علموهم الأدب قبل أن يجلسوا في مجالس العلم والطلب. علموهم الأدب مع الكبار والعطف على الصغار، علموهم الهدوء واحترام المساجد ودور العلم والعبادة.
فهذا رب العزة والجلال يخاطب كليمه موسى -عليه السلام- فيقول: {اخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} (طه:13-14). علمه سبحانه الأدب: أدب المكان: (اخلع نعليك) علمه أدب الحديث: (فاستمع لما يوحى) ثم أوحى إليه بالتوحيد والشريعة: ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري). الأدب ثم الأدب قبل أن يجلس الإنسان في مجالس العلم والطلب، يتعلم للعلم الوقار، يتعلم له الحشمة والقرار.
وهذه أم الإمام القبس مالك بن أنس -رحمة الله عليه وعليها- لما أراد أن يطلب العلم ألبسته أحسن الثياب ثم أدنته إليها، ومسحت على رأسه، وقالت: يا بنيّ اذهب إلى مجالس ربيعة، واجلس في مجلسه، وخذ من أدبه ووقاره وحشمته قبل أن تأخذ من علمه. فقد علّمته الأدب قبل أن يجلس في مجلس الدرس والطلب.
معشر الآباء والأمهات، أعينوا الأبناء والبنات على مشاق العلم ومتاعبه، هذه أم سفيان الثوري -رحمة الله عليه وعليها-، ويا لها من أم صالحة! توفي أبوه وكان صغير السن حدثا، فنشأ يتيماً لا أب له، ولكن الله رزقه أماً صالحة كانت عوضاً له عن أبيه، أم وأي أم هذه الأم الصالحة! لما توفي زوجها تفكر سفيان -رحمه الله- في حاله وحال إخوانه وحال أمه فأراد أن يطلب العيش والرزق، وينصرف عن طلب العلم، فقالت له تلك الأم الصالحة مقالة عظيمة مباركة قالت له: أي بني، اطلب العلم أكفك بمغزلي، فانطلقت الأم تغزل صوفها وتكافح في حياتها حتى أصبح سفيان علماً من أعلام المسلمين، إماماً من أئمة الشريعة والدين، وكل ذلك في ميزان حسنات هذه المرأة الصالحة أعظم الله ثوابها وجزاها عن المسلمين خيراً.. عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا أنفق الرجل على أهله نفقةً يحتسبها فهي له صدقة» متفق عليه.
لاتوجد تعليقات