رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني 13 نوفمبر، 2017 0 تعليق

وقفات مستنبطة مِنْ صُلْح الحديبية للرد على فكر الجماعات الجهادية (3)

 

استكمالا لما بدأناه من وقفات في المقال السابق نقارن بها بين حال الجماعات الجهادية والتكفيرية وفكرهم وحال رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقفه في صلح الحديبية وغيره من مواقف سيرته العطرة؛ وذكرنا أن هناك فروقًا كثيرة، وأن الواجب على قادة تلك الجماعات وأتباعهم أن يراجعوا أنفسهم تجاه هذه الأمور، واليوم نستكمل تلك الوقفات.

تأخير فتح مكة

     الوقفة السابعة: النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر الله عليه فتح مكة لوجود طائفة مؤمنة تخفي إيمانها، كما قال -تعالى-: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} هذا، مع أن الفتح نصر عزيز، كما قال -تعالى-: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(2) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا}(3).

ترويع الآمنين

     أما هذه الفِرق فتفجّر هنا وهناك، فتودي هذه التفجيرات بأرواح العديد من المسلمين بزعم أنهم «يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»!! بل توسعوا في ذلك جدًّا!! فلماذا لم يستدل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ويعجل بفتح مكة، ويقتل برها وفاجرها، والكفار فيها أكثر من المؤمنين، وكل يبعث على نيته؟ هذا، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه مكة حقن دماء كثيرين، وأعلن العفو، والتأليف في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؛ مما يدل على أن الأصل عنده صلى الله عليه وسلم الرحمة لا النقمة.

فتحًا مبينا ونصرًا عزيزًا

     الوقفة الثامنة: سمى الله -عز وجل- صلح الحديبية وما جرى فيه – على ما كان في نفوس الصحابة من حُزْن وغَمٍّ- فتحًا مبينا، ونصرًا عزيزًا؛ مما يدل على أهمية الاستمرار في الدعوة وإن كانت هناك مضايقات وشروط جائرة، فسمى الله -عز وجل- الأمر باعتبار ما سيؤول إليه، وقد كان -ولله الحمد.

     فقد أخرج البخاري عن البراء أنه قال: «تَعُدُّون أنتم الفتح فتحَ مكةَ، وقد كان فتحُ مكةَ فتحًا، ونحن نَعُدُّ الفتحَ بيعةَ الرِّضْوَانِ يومَ الحُدَيْبِيَة» اهـ. وكذا قال غير واحد من الصحابة وغيرهم، وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}: «وجعل ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه» وقال أيضًا: «أي بيّنًا ظاهرًا، والمراد به صلح الحديبية؛ فإنه حصل بسببه خير جزيل، وآمن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان» اهـ.

     وهذه الفِرق ترى أن من غلّب جانب الدعوة، وترك الحروب والمناوشات مع الكفار، ونأى بدعوته عن الدخول معهم فيما يبدد الطاقات، ويبعثر الجهود، ويجرُّ الويلات على المجتمعات المسلمة، وهي – حتى الآن- غير مهيئة للصمود أمام الشبهات، دعْ عنك الحروب المدمرة!! فيرون الداعية الذي يصبر على شروط أو أمور، أو مواقف -من الحكام وغيرهم- فيها إجحاف وتعسّف حتى يجعل الله له فرجًا ومخرجًا، ويستمر في ثغور الدعوة؛ يَعُدُّونه جبانًا ضعيفًا بل عميلاً منافقًا!! فهل نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلمأم نتبعهم؟!

تعظيم شروط الصلح

     الوقفة التاسعة: لقد عظّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشروط التي في الصلح، وإن كان ذلك على حساب بعض المؤمنين الذين ردهم كأبي جندل بن سهيل بن عمرو، وأبي بصير؛ فإن الله سيجعل للمظلوم من المؤمنين فرجًا ومخرجا، وأما اتهام الإسلام بالغدر والخيانة فمفسدة أكبر.

تشويه للإسلام بالغدر

     وما يجري من هذه التنظيمات من قتل المعاهَدين والمستأمنين تشويه للإسلام بالغدر، والظلم، ونقض الشروط، وفي هذا مفسدة عظمى، وقد حَرَص رسول الله صلى الله عليه وسلمعلى عدم وقوع المسلمين فيها، حتى رد أبا جندل، وأبا بصير إلى أن جعل الله لهما ولغيرهما من المؤمنين فرجًا ومخرجا، فظهر تساهل هؤلاء الشباب، وتوسعهم، وخطأ تأويلاتهم في أمور تُفضي إلى اتهام الإسلام بالغدر، ونقض العهود والمواثيق!!

الثمرة التي من أجلها احتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما احتمل

     الوقفة العاشرة: لم يشترط رسول الله صلى الله عليه وسلمعلى قريش خلال مدة الصلح أن يتركوا دينهم الباطل، فكل من الطرفين باق على دينه، بل اشترطوا أن يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جاءه منهم يريد اللحاق بالمسلمين، لكن الجديد: التخلية من قريش بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الناس، وهذا هو الفتح المبين والنصر العزيز، وهذه الثمرة التي من أجلها احتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش ما احتمل.

فهم خطأ

     أما هذه الجماعات فترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالذبح للمشركين، وأن هذا مقدم على القيام بالدعوة والصبر على لأْوائها، مع أن الذي قال: «تعلمون يا معشر قريش، والله لقد جئتكم بالذبح» هو الذي قَبِل صُلْح الحديبية بما فيه، وقد سبق تفصيله، وهو الذي قال: «ما جئتُ لقتال أحد، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب، وأضرَّت بهم، فإن شاؤوا مادتهم مدة، ويُخَلُّوا بيني وبين الناس....»إلخ، وهو الذي حكى عن نبي قوله: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» وواضح من سيرته صلى الله عليه وسلم  في حربه مع قريش: أنه لم يبدأهم بقتال في أكثر أحواله، وأنهم في أكثر أحوالهم هم الذين يبدؤون بذلك، ويذهبون إلى المدينة لحربه، بل لم يذبحهم صلى الله عليه وسلم جميعًا – مع قدرته- يوم الفتح المبين، ويوم العزة للمؤمنين؛ مما يدل على أن قوله صلى الله عليه وسلم: «لقد جئتكم بالذبح» إنما يكون عند القدرة من المؤمنين أولاً، ثم عند إعراض المشركين، وصدهم عن سبيل الله، وعدم قبول الدعوة والوقوف بينها وبين الناس، أما ماداموا يقبلون الدعوة، أو الصلح بين المسلمين وبينهم من أجل التفرغ للدعوة؛ فلا ذبح، وإلا استعان بالله وقاتلهم ليخلوا بينه وبين الناس، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «... وإن هم أبَوْا، فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره».

      هذا ما تيسر تحريره من وقفات مستنبطة من صلح الحديبية، ومقارنة ذلك بما يجري في هذه الأيام، ليعلم الواقف على ذلك كم الفرق بين هدْي محمد صلى الله عليه وسلم وعجلة المتعجلين!! وليراجع هؤلاء الشباب أنفسهم: إلى أين يسيرون؟ وأين هم من هذا الموقف فقط؟ ناهيك عن غيره من الأدلة الأخرى، وليراجع كل مُنَظِّر في هذه التنظيمات نفسه: أين هو من أدلة مخالفيه؟ وكيف موقفه بين يدي الله غدًا؟ وإن الناصح لنفسه: يقرأ ما عند أصحابه، وما عند غيرهم، ويتجرد في النظر والبحث، ويطلب من الله الهداية إلى سواء الصراط، ويُلِحّ على الله في ذلك، وليسأل العلماء – وإن أساء بهم الظن- وليقبل الحق منهم بدليله، ولا عليه من عملهم شيء؛ فالحق خير مطلوب، وهو ضالة كل مؤمن مشفق من عذاب الله، والله أعلم.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك