وقفات سلفية فهم النصوص على ضوء أقوال السَّلف وتفاسيرهم وما نقُل عنهم
الفهم في الاصطلاح هو المعرفة بشيء أو موقف أو حدث أو تقرير لفظي ، ويشمل المعرفة الصريحة المتكاملة بالعلاقات والمبادئ العامة، وهو يشمل التفسير، والتوظيف، والذاكرة اللغوية، قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «ثم الفهم، الفهم فيما أُدلي عليك مما ليس في قرآن وسنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد –فيما ترى– إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق».
وإن صحة الفهم لنصوص الوحيين، تكاد تكون ترجمة حرفية لمراد الله، وكلما كان فهم المستدل صحيحاً ؛ كان أقرب لحكم الله –عزّ وجلّ– ولمراد الشارع الحكيم، وقد جرَّ سوء الفهم على أهل الأهواء والبدع نتائج خطيرة برغم ما كانوا يتمتعون به من ذكاء شديد، وفطنة عجيبة .
فصحة الفهم نعمة من الله –عزّ وجلّ– بجانب كونها ملكة تحتاج لصقل وتدريب والالتزام بضوابط علمية، تعصم من الانحراف عن الصراط القويم، والنهج الصحيح؛ ولهذا كان خير ما تُفهم به النصوص الشرعية هو فهم الصحابة.
فالصحابة هم حواريو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فهم أكثر فهماً لرسالته من غيرهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».
ثم إن الصحابة كانوا يسألون عمَّا يُشكل عليهم، فقد روى البخاري عن ابن أبي مُليكة في كتاب العلم عن عائشة -رضي الله عنها-: أنها كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه، إلا راجعت فيه حتى تعرفه. وبهذا يُعرف أن ما ينقدح في ذهن الإنسان من مسائل لم يسأل عنها الصحابة مع حاجتهم إليها ووقوع دواعيها عندهم؛ فليعلم أن هذا من تلبيس الشيطان؛ فالأمر الواجب هو أن يقف الداعي؛ حيث وقف الصحابة -رضي الله عنهم- وليعلم أن الله -تعالى- ما ترك شيئاً مما نحتاج إليه نسياً منسياً.
فضيلة الصحبة
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «إن الله نظر في قلوب العباد؛ فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد؛ فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئا، فهو عند الله سيء. وقال قتادة رضي الله عنه في قوله -تعالى-: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد}، قال : «أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم».
فهم النصوص على فهم الصحابة
أولاً: دلالة القرآن الكريم:
قال -تعالى-: {كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، والوسط: الخيار العدل؛ فالصحابة خير الأمة، وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإراداتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة؛ وقال -تعالى-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}.
ثانياً: دلالة السنة النبوية
قوله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ..... ». والعموم في الحديث يقتضي عموم الخيرية في الاعتقاد والفهم والعمل .
ثالثاً: دلالة الإجماع وأقوال العلماء
أ- الإجماع :
•قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «اتفاق أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف على أن خير قرون هذه الأمة – في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة القرن الأول، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة من عِلم وإيمان، وعقل ودين وبيان، وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل؛ فهذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم».
ب- أقوال سلف هذه الأمة وعلمائها
• قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : «اتقوا الله يا معشر القراء! خذوا طريق من كان قبلكم، والله لئن استقمتم فقد سُبقتم سبقا بعيداً ،ولئن تركتموه يميناً وشمالاً، لقد ضللتم ضلالاً بعيداً».
• وعن عباد بن العوام قال: «قدم علينا شريك بن عبدالله منذ نحو خمسين سنة فقلت له : يا أبا عبدالله، إن عندنا قوما من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث، قال: فحدثني بنحو من عشرة أحاديث في هذا، وقال: أما نحن فقد أخذنا ديننا عن التابعين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم عمّن أخذوا؟!
• قَالَ الشَّافِعِيُّ -رحمه الله- فِي رِسَالَتِهِ: «هُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَعَقْلٍ وَدِينٍ وَفَضْلٍ وَكُلِّ سَبَبٍ يُنَالُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ يُدْرَكُ بِهِ هُدًى وَرَأْيُهُمْ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا».
• وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: «أصول أهل السنة عندنا: التّمسّك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدع».
•وقال ابن تيمية رحمه الله-: «وأصل وقوع أهل الضلال في مثل هذا التحريف الإعراض عن فهم كتاب الله -تعالى- كما فهمه الصحابة والتابعون، ومعارضة ما دلّ عليه بما يناقضه».
سُنًّة الصحابة
• وقال الإمام الأصولي أبو إسحق الشاطبي -رحمه الله-: سّنة الصحابة -رضي الله عنهم- سنة يعمل عليها ويرجع إليها ومن الدليل على ذلك أمور:
1 - ثناء الله عليهم: قال -تعالى-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}.
2- ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم وأن سنتهم في طلب الاتباع كسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، كقوله صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ».
3- أن جمهور العلماء قدَّموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل؛ فقد جعل طائفة قول أبي يكر وعمر حجة ودليلا، وبعضهم عدّ قول الخلفاء الأربعة دليلا وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلا ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة .
رابعاً : دلالة العقل
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «من المُحال أن تكون القرون الفاضلة -القرن الذي بُعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم- كانوا غير عالِمين وغير قائِلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضدّ ذلك، إما عدم العِلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق، وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع.
أما القول الأول (غير عالمين)؛ فلأن من في قلبه حياةٌ، وطلبٌ للعلم، أو نهمةٌ في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب -والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه- أكبرَ مقاصده وأعظمَ مطالبه، وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية؛ فكيف يُتصور مع قيام هذا المقتضى- الذي هو من أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟! هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضاً عن الله، وأعظمهم إنكاباً على طلب الدنيا، والغفلة عن ذكر الله -تعالى-؛ فكيف يقع في أولئك؟
القول الثاني: أنهم معتقدون فيه غير الحق، أو قائلوه؛ فهذا لا يعتقده مسلم، ولا عاقل عرف حال القوم». فالصحابة أفقه الأمة، فهم أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأصحها قصداً، وأكملها فطرة وأتمها إدراكاً، وأصفاها أذهاناً: شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل ، وفهموا مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس مَن سمع وعلم ورأى حال المتكلم ، كمن كان غائباً لم ير ولم يسمع، أو سمع وعلم بواسطة، أو وسائط كثيرة؛ وعليه فالرجوع إلى ما كان عليه الصحابة من الدين والعلم مُتعيِّنُ – قطعاً – على من جاء بعدهم ممن لم يشركهم في تلك الفضيلة .
لاتوجد تعليقات