وقفات سلفية – التَّسليم بما جاء به الوحي وعدم الخوض في الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل فيها
المنهج السلفي هو المنهج القائم على اتباع سبيل المؤمنين من السلف الصالح، وهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، قال -تعالى-: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء:15)، ولقد تعرض هذا المنهج لتطاول كثير من الحاقدين عليه، ورموه بأبشع التهم والافتراءات، وادعت كثير من الفرق المنحرفة الانتماء إليه؛ لذلك نحاول في هذه السلسلة بيان حقيقة هذا المنهج وبيان حقيقة المنتسبين إليه، وتعرية الفرق المنحرفة كلها عن أصوله؛ ليعلم الناس حقيقته وصفاءه ونقاءه، واليوم نتكلم عن التَّسليم بما جاء به الوحي، مع إعطاء العقل دوره الحقيقي، وعدم الخوض في الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل فيها.
التَّسليم هو الاستسلام والإذعان والانقياد لما جاء في الوحيين (الكتاب والسنة) من أمور الاعتقاد والأحكام، قال -تعالى- مُقسِماً بنفسه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء:65)، وقال -تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:14)، وقال -تعالى-: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (الصافات:103)، فالواجب كمال التسليم للرسول - صلى الله عليه وسلم -, والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن نعارضه بخيال باطل نُسمّيه معقولا، أو نحمله شبهة أو شكّاً، أو نُقدّم عليه آراء الرجال، فنوحِّده بالتّحكيم والتسليم والانقياد والإذعان, كما نوحِّد المرسِل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكّلْ، فهما توحيدان, لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: «توحيد المرسِل، وتوحيد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -».
مبنى العبودية
فمبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع إلا ما أبان الله -تعالى- عن الحكمة منه؛ ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبيّ صدّقت بنبيها وآمنت بما جاء به: أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلَّغها عن ربها، ولو فعلت ذلك، لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلَّمت وأذعنت، وما عرفتْ من الحكمة، عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك. ولهذا كان سلف هذه الأمة -التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارفَ وعلوماً- لا يسألون نبيها: «لِمَ أمر الله بكذا؟ ولِمَ نهى عن كذا؟ ولِمَ قدّر كذا؟ ولِمَ فَعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضادّ للإيمان والاستسلام، وأن قَدَمَ الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم. فأول مراتب تعظيم الأمر: «التصديقُ به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه، والمبادرة به، والحذرُ عن القواطع والموانع.
منزلة العقل في الإسلام
لقد كرّم الإسلام العقل أيما تكريم؛ كرمه حين جعله مناط التكليف عند الإنسان والذي به فضّله الله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وكرّمه حين وجهه إلى النظر والتفكير في النفس، والكون والآفاق: اتعاظاً واعتباراً، وتسخيراً لنعم الله واستفادة منها، وكرمه حين أمسكه عن الولوج فيما لا يحسنه، ولا يهتدي فيه على سبيل رحمته به، وإبقاء على قوته وجهده.
وتفصيل هذه الجمل في التالي:
- أولاً: خصّ الله -تعالى- أصحاب العقول بالمعرفة التامة لمقاصد العبادة، وحِكَم التشريع، قال -تعالى- بعد أن ذكر جملة أحكام الحج: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة:197)، وقال -تعالى- عقب ذكر القِصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:179).
- ثانيـاً: قَصَـَر -سبحانه وتعالى- الانتفـاع بالذِكر والمـوعظة على أصحـاب العقـول، فقال -تعالى-: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (البقرة:269)، وقال -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} (يوسف:111)، {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (العنكبوت:35).
- ثالثاً: ذكر الله -تعالى- أصحاب العقول، وجمع لهم النظر في ملكوته، والتّفكّر في آلائه مع مداومة ذِكره، ومراقبته، وعبادته، قال -تعالى-: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (آل عمران:190-194).
- رابعاً: ذمَّ الله -تعالى- المقلدين لآبائهم؛ وذلك حين ألغَوا عقولهم، رضاً بما كان يصنع الآباء والأجداد؛ قال -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة:170-171).
- خامساً: حرَّم الإسلام الاعتداء على العقل، بحيث يعطله عن إدراك منافعه، ومِن ذلك حرَّم على المسلم شراب المسكر والمفتِّر، وكل ما يخامر العقل ويفسده؛ قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:90).
- سادساً: شدّد الإسلام في النهي عن تعاطي ما تنكره العقول السليمة، وتنفر منه، لمعارضته جناب التوحيد، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفرة» وفي رواية «ولا نوء»؛ وعن جابر - رضي الله عنه - : «لا عدوى ولا غول ولا صفر».
موقف السّلف من العقل
1- إن صحيح المنقول لا يُعارض صريح المعقول.
2- إن العقل لا يستقل بنفسه بالإرشاد، بل هو تابع للشّرع، ولو كان يستقل بنفسه لما أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وبهذا أمر السّلف؛ فإذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع، لأن العقل مصدِّق للشرع في كل ما أخبر به والشرع لم يُصَدِّق العقل في كل ما أخبر به كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «لو كان الدِّين بالرأي، لكان أسفل الخُف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه».
3- حاجة العقل إلى النقل كحاجة العين إلى الضوء للإبصار.
4- ثم إذا جعلنا العقل هو الأصل وهو المتبوع، فأيُّ العقول نجعله قيِّماً وحكماً أو أنموذجاً؟.
وبهذا يُعلم أنه لا يمكن أن يكون تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم -: فيما أخبر به متعلِّقاً بشرط، ولا موقوفاً على انتفاء مانع كمثل الذي يقول: لا أصدق ما أُخبَرُ به حتى أعلمه بعقلي. فهذا كفره ظاهر، وهو ممن قال الله فيه: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام:124).
وأهل الحق لا يطعنون في جنس الأدلة العقلية، ولا فيما علِم العقل صحته، وإنما يطعنون فيما يدّعي المعارض أنه مخالف للكتاب والسنة. ومن هذه المخـالفات خوض العقـل في الأمور الغيبية: من صفـات الله -تعالى- وأفعـاله (كالاستواء والنزول) التي جعل الله أول صفة من صفات المتقين: الإيمان بالغيب، قال -تعالى-: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (البقرة:1-3)، وكذلك عذاب القبر ونعيمه، والجنة والنار.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: «ومتى تعارض في ظن الظان الكتاب والميزان -أي العقل -، فأحد الأمرين لازم، إما فساد دلالة ما احتج به من النّص: بألا يكون ثابتاً عن المعصوم، أو لا يكون دالاً على ما ظنه، أو فساد دلالة ما احتج به من الميزان (القياس) بفساد بعض مقدماته أو كلها؛ لما يقع في الأقيسة من الألفاظ المجملة المشتبهة».
لاتوجد تعليقات