وقفات سلفية – أهمية الثبات على المنهج
وكما أن التزام منهج السلف واجب، فكذلك الثبات عليه.
إن الثبات على منهج السلف هو الاستقامة على صراط الله المستقيم وشرعه القويم وطريقه الموصل إلى جنات النعيم، الذي من سلكه واستقام عليه نجا، ومن انحرف عنه ضل وغوى، وتشعبت به طرق الضلال، وأقفلت أمامه طرق النجاة؛ الثابتون عليه هم الفائزون، والزائغون عنه هم الهالكون، قال -تعالى-: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}، واليقين هنا: هو الموت، ولا مقارنة بين من فقد الثبات فعجز عن السير على منهج الله، وبين من ثبت فوفقه الله للسير عليه.
فالأول: كمن يسير منحنيا لا مستويا، لا يتبين الطريق ولا تتضح له معالمه، ولا يدري أين يسلك، وكيف يذهب؟ فهو تائه ضال.
والثاني: يسير معتدلا مستقيما ناظرا إلى ما بين يديه وهو مع ذلك على طريق واضح بين مستقيم، وهكذا قال -سبحانه- في شأن هذين السائرين: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
والجواب: لا شك أن من يمشي سويا على صراط مستقيم أهدى وأقوم.
والثابت على المنهج المستقيم كمثل رجل أحياه الله بنور العلم والإيمان والطاعة؛ فصار يمشي مستقيما بين الناس، متبصرا في أموره، مهتديا لسبيله، عارفا للخير مؤثرا له، مجتهدا في تنفيذه في نفسه وغيره، عارفا بالشر، مبغضا له، مجتهدا في تركه وإزالته عن نفسه وعن غيره، فلا يستوي هو ومن ظل في ظلمات الجهل والغي والكفر والمعاصي، والتبست عليه الطّرق، وأظلمت عليه المسالك، وزين له سوء عمله فرآه حسنا، وفارقه الثبات، وزلت به القدم.
وفي هذا يقول الباري -جل وعلا-: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
- أسباب الثبات على المنهج:
أولا: العلم بالمنهج:
قال ابن القيم -رحمه الله-: «السائر إلى الله والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد، لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده، إلا بقوتين قوة علمية وقوة عملية؛ فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك؛ فيقصدها سائرا فيها، ويجتنب أسباب الهلاك، ومواضع العطب، وطرائق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل».
ثانيا: الأمر بلزوم المنهج:
قال -تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير}، وعن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، «قال أبو معاوية» بعدك قال: «قل آمنت بالله ثم استقم».
ولقد أمر المولى -سبحانه وتعالى- في آيات كثر بلزوم صراطه المستقيم، وأوجب اتباعه على الخلق أجمعين، فقال -سبحانه-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. قال الطحاوي -رحمه الله-: «ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام».
ومن هنا ربط ابن القيم -رحمه الله- ربطا دقيقا بين الالتزام بالمنهج السلفي والثبوت عليه في الدنيا وبين الثبوت عند المرور يوم القيامة على الصراط المنصوب على ظهر جهنم؛ حيث يقول: «من هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه هدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط؛ فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الركاب، ومنهم من يسعى سعيا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم المخدوش المسلم، ومنهم المكردس في النار؛ فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا حذو القذة بالقذة جزاء وفاقا {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون}.
ثالثا: الحذر من العدول عن المنهج:
ولقد حذر الله أيما تحذير، وهدد أيما تهديد، وتوعد وأنذر من خالف طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلك طريقا غيره، واتبع منهجا سواه من مناهج أهل الأرض الزائغة عن الصراط المستقيم، فقال -سبحانه-: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
والذي يشاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يأخذ له شقا وجانبا وصفا غير الصف والجانب والشق الذي يأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبالتالي يتخذ له منهجا غير المنهج الذي سار عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويختار له طريقا غير طريقه؛ فحينئذ يوليه الله ما تولى، ويورده جهنم وساءت مصيرا.
رابعا: الأخذ بالوسطية والاعتدال:
إن من أعظم ما يعين على الثبات على المنهج أن يتسم السائر عليه بالوسطية وهو مطلب عزيز طالما زلت فيه أقدام، واضطربت فيه أفهام، وقل أهله بين الناس أولئك الذين يتسمون بالعدل والإنصاف مع أنفسهم ومع غيرهم.
وهذا الذي دفع شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن يجعل جماع الشر يكمن في عدم الاعتدال؛ حيث قال: «وإنما جماع الشر تفريط في حق أو تعد إلى باطل، وهو تقصير في السنة أو الدخول في البدعة، كترك بعض المأمور وفعل بعض المحظور، أو تكذيب بحق وتصديق بباطل ولهذا عامة ما يؤتى الناس من هذين الوجهين».
وقد ضل الطريق وفارق الثبات على المنهج أناس نظروا إلى مجتمع الإسلام بمنظار؛ قاتم فأرادوا أن يصلحوا عوجه؛ فاتخذوا العنف طريقا إلى الإصلاح؛ فأحدثوا فوضى أريقت معها الدماء، وشوهوا من جرائها صفاء الإسلام؛ فتنفس الصعداء أعداء الله، ووجدوا بغيتهم وما يأملون فأطلقوا من الألفاظ والألقاب ما يصرفون به الناس عن الإسلام كأصولية متزمتة، وإرهابية ومصاصي الدماء، وغير ذلك.
وهناك نابتة أخرى أعجزتهم التكاليف أن يلتزموا بها، وصعب عليهم أن يواكبوا الالتزام، ومالت أنفسهم إلى تحللات المجتمع؛ فأرادوا أن يسايروه، فلجؤوا إلى النصوص فلووا أعناقها وميعوها.
لاتوجد تعليقات