وقفات تربوية وإيمانية مع دعوة لوط -عليه السلام- لقومه
القيام بأمر الدعوة إلى دين الله -تعالى- شرف عظيم للداعي؛ لأن هذا العمل من أعظم وأشرف الأعمال عند الله -تعالى-، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الآية، فمن قام بهذا الأمر بصدق كما أمره ربه سما وشرف عند ربه، وهذا هو سبب رقي الأنبياء والمرسلين وشرفهم عند الله -تعالى-؛ وذلك أنهم خير من قام بهذه المهمة؛ لذلك على من أراد أن يدعو لدين الله، أن يستفيد من خبرة هؤلاء الرجال عليهم السلام، عن طريق دراسة سيرهم وقصصهم في القرآن بتدبر، حتى يستخلص أصول سيره وقواعده في هذا العمل العظيم.
أسأل الله أن يقيم المسلمين جميعا لهذه المهمة، التي شرفهم الله بها، ولكنهم قصروا، ورضوا بأن يكونوا مروجين لبضاعة الشرق والغرب -بل حتى جنوب شرق آسيا- حتى تحول العالم الإسلامي إلى أسواق تروج فيها منتجات مصانع الشرق والغرب. فهذه المقالة دراسة متواضعة لسيرة نبي من أنبياء الله -تعالى-، وهو لوط -عليه السلام- لعلنا نستفيد من سجل خبراته في ميدان الدعوة إلى الله؛ لأن الله -تعالى- أعطاه حكما وعلما.
ما معنى كلمة لوط؟
كل شيء لصق بشيء فقد لاط به يلوط لوطا، ففيه معنى اللصوق لذلك قالوا: لاط الحوض بالطين لوطا، بمعنى طينه أي طلاه بالطين يعني مسحه كما نمسح الحائط الآن بالأسمنت والرمل، وكذلك الملصق بالرجل بالنسب يسمى مستلاط، وكذلك قال بعضهم: بما استلطتم دم هذا الرجل؟ بمعنى استوجبتم واستحققتم، وذلك أنهم لما استحقوا الدم وصار لهم، فكأنهم ألصقوه بأنفسهم. ولوط: اسم النبي الذي أرسله الله لسدوم، فكذبوه وأحدثوا ما أحدثوا فاشتق الناس من اسمه فعلا لمن فعل فعل قومه، وهو اسم ينصرف مع العجمة والتعريف.
إسلام لوط -عليه السلام:
لوط -عليه السلام- هو ابن هارون- أخو إبراهيم -عليه السلام- بن تارخ، أصله من العراق وهو أول من أسلم، وصدق بنبوة عمه إبراهيم -عليه السلام-، قال -تعالى-: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وتبع عمه في رحلاته، ثم افترق عنه بعد ذلك.
ثم بعث في القرى الآتية، سدوم، وعامورا، وداودما، ووضعوه، وفتم، داعيا إلى الله -تعالى.
قال ابن كثير: وإن الله -تعالى- قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم -عليهما السلام-، وكانوا يسكنون سدوم وأعمالها التي أهلكهم الله بها، وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة، وهي مشهورة ببلاد الغور، متاخمة بجبال بيت المقدس بينها وبين الكرك والشوبك. أهـ.
ما كان عليه قوم لوط -عليه السلام:
المدعو هو المادة التي يتعامل معها الداعي إلى الله -تعالى-، فعليه أن يدرسها جيدا، حتى يتعامل معها على أسس علمية أثناء عملية التبليغ والتعليم والتربية، والذي يجهل هذا يتخبط في أمره، وقد يطول وصوله إلى أهدافه؛ لأنه لا يضع طاقته في موضعها، فكم رأيت دعاة يعطون من طاقاتهم الكثير لنوعيات لا تستحق منهم كل هذه الطاقة، ويقصرون في حق آخرين! يستحقون منهم مزيدا من الجهد والتركيز، وذلك أن الناس ليسو سواء في مفاهيمهم وعطائهم وجهدهم؛ لذلك رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يخصص دعاء خاصا لرجلين من قريش -بناء على دراسته الدقيقة لنوعية مدعويه- هما عمر بن الخطاب وأبو جهل؛ لأن كل واحد من هذين كان يعدل مئات من الرجال؛ من حيث تمسكه بمبادئه والقيام بها؛ لذلك ذكر الله -تعالى- لنا ما كان عليه قوم لوط، وكيف عالجهم -عليه السلام- حتى نستفيد من خبرته.
تكذيب الرسول كفر بالله -تعالى
قوم لوط كانوا كافرين بالله -تعالى-، وعندما دعاهم لوط أصروا على كفرهم وعنادهم قال -تعالى-: {كذبت قوم لوط المرسلين}، فالمكذب لرسوله، هو مكذب بجميع رسل الله -عليهم السلام.
ظهور الفواحش
ظهرت في قوم لوط من الفواحش ما لم تظهر في أحد من العالمين، فهم يأتون الذكور ويذرون النساء، وهذا انتكاس في الفطرة، وهذا معلن بهلاك الأمم التي تفشو فيها مثل هذه الفاحشة، نسأل الله السلامة، قال -تعالى-: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}.
وقال -تعالى-: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}.
وقال -تعالى-: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}.
قطع الطريق
قطع الطريق وأكل أموال الناس بالباطل، والمجتمع الذي يفلشو فيه مثل هذا، يفقد أهله الأمان، وتترتب على ذلك أمور، توقف المجتمع عن البناء، وبالتالي انهياره. قال -تعالى-: {وتقطعون السبيل}.
الاستخفاف بالقيم
الطغيان والاستهتار بالقيم والفضائل والسخافة والسفاهة والمجاهرة بما لا يحل شرعا وعقلا، قال -تعالى-: {وتأتون في ناديكم المنكر}، قال مجاهد: كانوا يأتون بعضهم بعضا في الملأ، وقالت عائشة: كانوا يتضارطون ويتضاحكون. وقيل: كانوا يناطحون بين الكباش، ويناقرون بين الديوك، وكل ذلك كان يصدر عنهم، وكانوا شرا من ذلك.
وقال -تعالى-: {أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون}، قال ابن كثير:يرى بعضكم بعضا، والمجاهرة بالمنكر أمر عظيم؛ لأن فيها استخفافا بحق الله ورسوله وبعباده الصالحين، كما فيه نوع من العناد، وجرأة على محارم الله، كما فيه تشجيع للآخرين للوقوع بمحارم الله -تعالى-، عن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه».
كيف دعا لوط -عليه السلام- قومه؟
بدأ لوط -عليه السلام- دعوته قومه بالقضية المركزية للدين، وهي تقوى الله -عز وجل-، ثم أعلمهم بأنه مرسل من عند الله -تعالى- أمين على ما ائتمنه الله عليه من أمر الدعوة، فهو مبلغ دعوة ربه، كما أمر من غير زيادة أو نقص، وأمرهم بطاعته، كما بين لهم بأنه ليس له غرض من هذه الدعوة إلا رضا الله -عز وجل- حتى لا يظن به أنه يريد غرضا دنيويا بدعوته، وأمرهم بالابتعاد عن الفواحش والموبقات.
قال -تعالى-: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}.
وقال -تعالى-: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}. وقال -تعالى-: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}.
علاجه للفاحشة
وانظر لعلاجه للفاحشة المتفشية في قومه؛ فبين لهم أن وقوعهم بهذه الفاحشة فيه إسراف واعتداء وجهل، كما لم يسبقهم أحد من العالمين لمثل هذه الفاحشة، كما بين لهم أنه من المبغضين لعملهم بريء منه، وهذا أسلوب الترهيب والتنفير، كما ذكر لهم البديل الطيب عن هذه الفاحشة وهو الزواج الحلال.
لذلك على الداعي إلى الله أن يبدأ دعوته بأصول الدين وقواعده العامة، فيبدأ بتوحيد الله -عز وجل- ثم يتدرج بعد ذلك، فيبدأ بالأهم فالأهم، وأن يكون مخلصا بدعوته، لا يلتفت إلى حظوظ الدنيا وشهواتها؛ لأنه إن فعل ذلك انهار وانفض الناس من حوله، وأن يستخدم أسلوب الترهيب من معاصي الله -عز وجل-، وأن يحاول أن يوجد البديل الصالح للمدعوين، وأن يكون مصدرا موثوقا فيه عند المدعوين.
موقف قومه من دعوته:
كان موقف قومه من دعوته التكذيب، قال -تعالى-: {كذبت قوم لوط المرسلين}، والاستهزاء والسخرية به وبدعوته، قال الله -تعالى- حاكيا عن قومه: {إنهم أناس يتطهرون}، وصدق الله حين قال: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، كما توعدوه -عليه السلام- بالطرد من قريته، قال -تعالى-: {قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}.
فعلى الداعي إلى الله -تعالى- أن يوطن نفسه للبلاء؛ لأن البلاء لابد منه فقد تعرض الداعي للتهديد والطرد والإبعاد، وقد يتعرض للاستهزاء والسخرية من المدعوين، فعليه أن يثبت وألا يثنيه ذلك عن القيام بدعوته.
لاتوجد تعليقات