وقفات تربوية من مدرسة الحج
فيما تغمر العالم الإسلامي فرحة أيام الحج ومناسكه التي شرعها الله -سبحانه وتعالى- تطهيراً ورحمة لعباده، تنطق الأقلام، وتسطر الحناجر، وقفات إيمانية وروحية وعلمية وتربوية وجهادية، تنهل من مدرسة الحج نماذج وأفكارا وعبرا كثيرة؛ فلا يوجد في الدين الإسلامي ركن أو نهج أو عمل، إلا وكانت حكمة عظيمة وراءه، دبرها العزيز المنان، وكشف بعضاً منها لأولي العلم من الناس، يتدبرون فيها عظمة الخالق وجبروت مالك الملك، ورحمة الرحمن الرحيم.
دروس لا تنتهي
ومن هذه الوقفات التربوية التي كتبت الكثير من الأقلام عنها دون أن تستطيع الإحاطة بأقل قليلها، أو تحديد معانيها ومرامها، ما يحدد الأستاذ فهد الجهني بالقول: لعلنا نقف مع بعض الدروس والعبر التي نتعلمها في مدرسة الحج، وإن شئت فقل (جامعة الحج)، ولسنا نقصد الحصر ولا العد، إنما هي إشارات وإضاءات، تبين روح الإسلام وعظمته.
توحيد الله -عزوجل
من أوائل الدروس التربوية للحج تتجلي في العناية بالتوحيد وبيان أهميته، وأن الحكمة من بناء البيت إنما هي توحيد الله -جلّ وعلا- وجُعل قصدُ الناس إليه من أرجاءِ المعمورة لإذكاءِ شعيرةِ توحيد العبادةِ وخلوصها لله -سبحانه- لا شريكَ له، {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}(الحج:26)، والمتأمل للأعمال والأذكار التي يقوم بها الحاج خلال رحلة الحج يجد أنه يلهج بتوحيد الله -عزوجل- من أول منسكه إلى نهايته لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك، كما في حديث جابر رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «فأهل بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك» رواه مسلم .
الاقتداء و التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم
كذلك فمدرسة الحج تربي الفرد والمجتمع المسلم على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فالحاج يربي نفسه على متابعة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شؤون الحياة جميعها؛ فإن متابعة الحاج لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في مناسك الحج استجابة لقوله صلى الله عليه وسلم : «خذوا عني مناسككم»، تربية للحاج أن يلتزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيما يأتي وما يذر، وذلك هو بداية الانطلاقة للتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله -تعالى-: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}؛ فمدرسة الحج تربي المسلم على أن الخير له والفلاح في العودة إلى هدي النبوة هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأمة الإسلام اليوم في أمس الحاجة إلى أن تعود إلى إرث محمد صلى الله عليه وسلم لتستعيد عزها و مجدها المفقود
الوحدة والاجتماع واتحاد الصف
من أعظم هذه المعاني وضرورتها ودورها في نهضة الأمة، وهي واضحة جلية في شعيرة الحج؛ فالمسلمون يأتون من كل صوب وحدب، وهم مختلفون في بلدانهم، وألوانهم، ولغاتهم، وأسمائهم، لكنهم اجتمعوا واتحدوا وتوافقوا زماناً ومكاناً ظاهراً وباطناً في الحج، وهم مع ذلك اتحدوا باطناً؛ بحيث لو سألت أي حاج لِمَ قدمت إلى الحج؟ لَما تردد وأجابك بأنه قدم طاعة لله -عزوجل- وطمعاً في عفوه ورحمته، والله -تعالى- يقول: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} (البقرة: 199)؛ لتكون أفعال الحج واحدة، ومظاهر الوحدة والاجتماع بين الحجاج في المناسك ظاهرة لا حاجة لتفصيلها، إذاً لو لم يكن في الحج إلا هذه الفائدة وهذا الدرس نتعلمه ونرجع به إلى أوطاننا لكفى -والله- ولكان له الأثر الواضح والنقلة النوعية نحو سمو الأمة الإسلامية وعزها.
تيسيراً لا تعسيراً
اليسر والسهولة ورفع المشقة سمة من سمات دين الإسلام، وتظهر صور ذلك بينة في الحج؛ ففي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما وقف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه. قال: فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدّم ولا أخّر إلا قال: افعل ولا حرج، وكذلك الرخصة لذوي الأعذار كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، والإذن للضعفة من النساء والصبيان بالإفاضة من مزدلفة ليلاً، ورمي جمرة العقبة قبل وقتها، وغير ذلك من شواهد التيسير، والبعد عن التعسير على الحجاج.
التنظيم والانضباط والجدية
إن من أوضح ما يراه من يتأمل في الحج، ذلك التنظيم الدقيق، وإلزام الحاج بالانضباط والجدية؛ فمن بداية رحلة الحج المباركة إلى نهايتها، نجد حدوداً واضحة مكانية وزمانية؛ فالحدود المكانية هي مواقيت الحج المحددة، التي لا يجوز تجاوزها لمن أراد الحج من غير أهل مكة، وكذلك أماكن الطواف والسعي وغيرها، أما الحدود الزمانية؛ مما حدد من المناسك بوقت معين، كالوقوف بعرفة، والخروج منها، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، وغير ذلك، ومن التنظيم الملاحظ في الحج، إلزام الجميع لباساً واحداً له صفة معينة، وكذا بيان المحظورات التي تخل بالإحرام، كل هذه حدود من الشارع -عزوجل- {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(البقرة: 229)، وقال -تعالى-: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1).
ذاتية التربية والمراقبة
هذه المعاني نجدها متمثلة في مشاعر الحج، بل إن الله -تعالى- أمر بالتقوى في سياق آيات الحج؛ فقال -تعالى-: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}(البقرة: 197)؛ مما يحمل المسلم الحاج على مراقبة الله العظيم مراقبة ذاتية داخلية من قبل النفس؛ فكل عمل يعمله يعلمه الله وقد نهاه الله -عزوجل- عن الرفث والفسوق والجدال تربية وتهذيباً لسلوكه {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (البقرة: 197)؛ فمن بداية الحج إلى تمامه والمسلم يراقب الله -تعالى- ويلزم التقوى؛ فيكون قصده لله وحجه وحبه ورجاؤه وخوفه وذله ودعاؤه وتضرعه كله لله -تعالى-؛ فإذا لبس إحرامه، جعل من ذاته رقيباً ينبهه ويذكره علم الله واطلاعه، فلا يقترب من محظورات الإحرام، وإن وقع منه خطأ؛ فإنه يكفر عن هذا المحظور بما ورد، والله أعلم به، وإن كان في الطواف ووقع شيء من الزحام مع هذه الألوف من الرجال والنساء؛ فيراقب بصره عن رؤية ما لا يحل له، وينأَ بنفسه عن الحرام، ويحفظ قلبه وسمعه وبصره ولسانه في الحج، حفاظاً على نسكه، وطمعاً في قبول عبادته، وهكذا في كل مناسك الحج، وفي ذلك كما لا يخفى تربية للنفس وارتقاء بها وتزكية وتطهير لها، وإنه -والله- لدرس ما أجَلّه وأعظمه لو تأمله واستفاد منه الحاج وعممه وطبقه على باقي حياته.
التآلف والتعارف بين المسلمين
ما أجمل الحج عندما تتعرف إلى أحد إخوانك المسلمين من بقاع الأرض الأخرى؛ فتعرف أحواله وتحبه ويحبك، ثم أنت وإياه تساعدان وتعينان إخوانكم، ويعطف بعضنا على بعض، لا رابط يجمعنا، لا نسب، ولا وطن، ولا تراب، ولا مال، ولا شيء إلا الإسلام، نعم هنا في أيام الحج تظهر أجمل معاني الأخوّة وأروعها، ونكون كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً».
تكريم المرأة وصيانتها
المرأة، وما أدراك ما المرأة؟ اتخذها مَن في قلبه مرض، طريقاً لمقاصدهم الضالة، وسلماً لأمنياتهم المشبوهة في إفساد المجتمع، وتغريب الأمة؛ فزعموا -جاهلين أو متجاهلين- ظلم المرأة وإهانتها، وبخسها حقوقها وحريتها في المجتمع المسلم، وإنا نقول بأعلى الأصوات: لا يوجد دين أو ملة أو قانون أعطى المرأة حقوقها وكرمها ورفعها وصانها إلا الإسلام ولا فخر، حتى تمنى بعض نساء الغرب أن يعشن حياة المرأة المسلمة في مكانتها وعفتها وسعادتها، بتربية أبنائها وعزها بحجابها؛ لما قاست المرأة الغربية الكافرة من ظلم وإهانة واحتقار، وفي الحج صور متعددة من تكريم المرأة ورعايتها وصيانتها؛ فعندما قام ذلك الرجل، وقال: يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اذهب فحج مع امرأتك».
ولما لم يلزم الإسلام المرأة بالجهاد حفاظاً عليها وتقديراً لضعفها أبدلها الله مكانه الحج والعمرة؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: «نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة» رواه أحمد وابن ماجة، وتأمل معي – أخي الكريم – ما ورد في الحديث المتفق عليه أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك يا هنتاه؟ قلت: سمعت قولك لأصحابك؛ فمنعت العمرة، قال: وما شأنك؟ قلت: لا أصلي، قال: فلا يضيرك! إنما أنت امرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن؛ فكوني في حجتك فعسى الله أن يرزقكيها».
أليس في هذا تكريم للمرأة وسؤال عن حالها وتطييب لخاطرها واهتمام بشؤونها ويا ليت قومي يعلمون هذا! ليتهم يدركون ما في الالتزام بمنهج الإسلام في التعامل مع المرأة ورعايتها في كنفه، من حفاظ على أخلاقيات المجتمع، وصيانة للأمة من كل أنواع الفساد الاجتماعي، والتربوي، والأخلاقي، الذي يعيشه العالم المادي اليوم، ونراه عياناً هنا وهناك.
التسامح والعفو وسلامة الصدر
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه». رواه البخاري ومسلم، وما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وفي هذا بيان عظم عفو الله ورحمته وكمال جوده وكرمه مع قاصدي حرمه وحجاج بيته، وفي هذه الأيام المباركات تنزل الرحمات، وتعظم البركات، ويعفى عن السيئات من لدن الغفور الرحيم، العفو الكريم، البر الحليم؛ فهل نستفيد من الحج بأن نرجع متسامحين عافين عن الناس، صدورنا سليمة، قلوبنا طاهرة من كل غل على المسلمين؛ فأسامح جميع إخواني، وأعفو عمن أساء إليّ، وأحمل خطأ الآخرين المحمل الحسن، وأطهر قلبي من أي حقد أو حسد، أو ضغينة، أو كراهية، كل ذلك رجاءً وطمعاً في أن يغفر الله لي، ويعفو عني وهو أرحم الراحمين و«إنما يرحم الله من عباده الرحماء».
تربية النفس و ترويضها على الصبر
من أظهر الدروس التي تتضح بجلاء في مدرسة الحج، التربية على الصبر، وتحمل المشاق في سبيل مرضاة الله قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(البقرة:153)، والصبر من خير ما يوفق له المؤمن؛ فعن أبي سعيد الخدري، قال: قال صلى الله عليه وسلم: «ما أُعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصَّبر» رواه الخمسة، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «وجدنا خير عيشنا بالصبر»، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «الصبر مطية لا تكبو والقناعة سيف لا ينبو»، وقال ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: «إن الله -سبحانه- جعل الصبر جواداً لا يكبو، وصارماً لا ينبو، وجنداً لا يهزم، وحصن حصيناً لا يهدم ولا يثلم”.
لاتوجد تعليقات