رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: محمد الباز 5 أغسطس، 2024 0 تعليق

وقفات تربوية من أحاديث خير البرية (4) ذهب أهل الدثور بالأجور

  • الصدقة أوسع من الإنفاق المالي فحسب بل لها أوجه عديدة من الأعمال والسلوك
  • لا يمكن أن نقول إن نوعا ما من الصدقات دون آخر هو أفضل الصدقات بالمطلق
  • الصحابة غنيهم وفقيرهم وضعوا غنائم الآخرة هدف التنافس بينهم
 

روى مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ:» أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»

      ينقلنا هذا الحديث الشريف نقلة كبيرة في توسيع معنى الصدقة ووسائلها وأشكالها، حتى ليكاد يدخل كل العمل الصالح تحتها طالما أريد به وجه الله -تعالى-، فيتضح فيه أن الصدقة ليست أوسع من الإنفاق المالي فحسب، بل لها أوجه عديدة كذكر الله -عزوجل-، وركعتي الضحى وغيرها من الأعمال والسلوك، بل إن التروك تعد أيضا من الصدقات لو تأسست على نية صالحة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: «الإيمان بالله والجهاد في سبيله» قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: «أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا» قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: «تعين صانعا أو تصنع لأخرق» قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: «تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك»، وعلى ذلك فكل المسلمين يمكنهم أن يكونوا من أهل الصدقة غنيهم وفقيرهم.

معايير تتفاضل بها الصدقة

ولما كان لمفهوم الصدقة هذا الاتساع فسنجتهد لبيان بعض معايير تتفاضل بها:
  • خير الصدقة ما كان مما تحب، قال -تعالى-: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}.
  • خير الصدقة مما تشح به النفس وأنت صحيح قوي، فقد سئل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن أفضلِ الصدقةِ فقال: «أن تصَّدقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخشى الفقرَ وتأملُ الغني».
  • خير الصدقة مما بقي عندك منه بعد الصدقة بقية تغنيك، قال - صلى الله عليه وسلم -: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى».
  • خير الصدقة ما كانت تملك منها شيئا قليلا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قيلَ فأيُّ الصَّدقةِ أفضلُ قالَ جُهدُ المقلِّ».
  • خير الصدقة ما امتد نفعه لما بعد الموت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ماتَ الرجلُ انقطعَ عملُهُ إلّا من ثلاثٍ: ولدٍ صالحٍ يدعو لَهُ، أو صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ يُنتَفعُ بِهِ».
  • خير الصدقة ما كان نفعه متعديا للآخر «وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة».

تحقيق مرتبة البر

        فلو كنت تحب المال أو الراحة أو العلم أو الطعام أو وقتك القليل، أو تحب أي نوع من الممتلكات المادية أو المعنوية، فإنفاقك من النوع الذي تحبه وتشح نفسك به ويبقى عندك منه بقية وإن كانت قليلة، يجعله من أفضل الصدقات التي توصلك إلى تحقيق مرتبة البر إن شاء الله. وعليه، فلا يمكن أن نقول إن نوعا ما دون آخر هو أفضل الصدقات بالمطلق، فقد تسبق كلمة في العلم والنصح آلاف الأموال، وقد تسبق مساعدة لإنسان متعب في تجاوز الطريق محاضرات علمية وسلاسل الشروح، وقد تسبق لحظة ملاطفة ولعب في وقتك الضيق ونفسك غير المؤهلة جهاد مجاهد أو إنفاق منفق، والأمور على ما عند الله لا على ما عند الناس، والله أعلم.

هن الباقيات الصالحات

         وفي الحديث فضل التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، وهن الباقيات الصالحات كما جاء في حديث آخر، وفيه مشروعية جمع المال ولو كان فاضلا عن الحاجة، وفيه لفت النظر لفضل الغني الشاكر، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: « نِعمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجلِ الصَّالحِ». وفيه أن الصحب الكرام الفقراء منهم كانوا مطمئني النفوس، سليمة صدورهم تجاه إخوانهم الأغنياء، وأنهم -غنيهم وفقيرهم- وضعوا غنائم الآخرة هدف التنافس بينهم، فالمسلم أيا كان حاله في هذه الحياة الدنيا، في سعة وغنى أو في ضيق وفقر، ومهما وقع عليه من الهموم والابتلاءات، فلابد أن يضع الآخرة نصب عينيه، ويعلم أن وجوده في دار الاختبار هو وجود مؤقت مهما طال به العمر.

تيسير الوصول إلى الجنة

ويستفاد أيضا من الحديث أنه نبه إلى تيسير الوصول إلى الجنة بتعديد الطرق الموصلة إليها، بحسب استطاعة كل إنسان؛ لشمول شريعة الإسلام لمختلف مناحي الحياة، وعليه فإن عمل الصالحات أمر يسير لا يحتاج لكثير مشقة.

توجيه عام للأمة

        وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «في بُضع أحدكم صدقة» توجيه عام للأمة بأسرها، سواء الموسر والفقير والمعدم منهم باستحباب الزواج، فمن كان تزوج فليستحضر النية، ومن لم يتزوج فليسع لتحصيل أسباب الزواج ليدرك الثواب، وهذا تنبيه لنفي النظرة الكنسية الدونية للجنس؛ حيث ذكر الجنس هنا في مصاف الأعمال الصالحة كالذكر والصدقة والصلاة، وهذه النظرة الطهورية الإنسانية الواقعية تساعد الإنسان على قبول احتياجاته، فلا يصارع الإنسان طبيعته ولا يستحيي منها، وهذا الشعور نفسه يساعد على إرواء الغريزة مع الشعور بالعزة والكرامة.

الحرص على النية الصالحة

         وفيه أن كل عضو من أعضاء الإنسان يضعه في حله ويستخدمه في الحلال فله بذلك أجر؛ لأن القاعدة النبوية تقول: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ، كَانَ لَهُ أَجْرٌ»، فينبغي الحرص على أن تكون النية صالحة حتى في فعل المباحات والأعمال اليومية، وهذا هو الأولى، ولو لم يعقد المرء النية في كل عمل بذاته، فإن الثواب يقع على الأمر المباح وإن لم تنعقد له نية التعبد به، ويكفيه نية الخير العام والمتابعة لأمر الشارع بلزوم الحلال.

لفتة أدبية دقيقة

وفي الحديث لفتة دقيقة إلى التأدب بعدم ذكر الألفاظ الصريحة فيما يخص العلاقة الزوجية (وفي بُضع)، أو ما يخص أمر العورات، فالمؤمن الأصل فيه أن يبتعد عن الفحش من القول.

تقرير وتطبيق عملي لمعنى الغبطة

كما حوى الحديث تقريرا وتطبيقا عمليا لمعنى الغبطة، التي لا تكون إلا في اثنتين، المال أو العلم، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حسدَ إلاَّ في اثنتَينِ: رجلٌ آتاهُ اللهُ القرآنَ فهو يقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، ورجلٌ آتاهُ اللهُ مالاً فهو يُنْفِقُهُ آناءَ الليلِ والنهارِ».  

معاني الكلمات

  • أَهْلُ الدُّثُورِ: أصحاب الأموال الكثيرة.
  • فُضُول أَمْوَالِهِمْ: أموالهم التي تزيد على حاجتهم.
  • تَهْلِيلَة: قول لا إله إلا الله.
  • بُضْع أَحَدِكُمْ: الجماع أو هو الفرج نفسه.
 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك