وقفات تربوية من أحاديث خير البرية (3) مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ
- من الفوائد العقدية في الحديث أن الأعمال الصالحة تتفاضل وأنها من أسباب زيادة الإيمان.
- من الفوائد الفقهية في الحديث جواز الإخبار عن أعمال الطاعات التي عملها الإنسان مع توقي الرياء والإعجاب
- اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتفقد أحوال من يربيهم وسؤاله إياهم عن أعمال الطاعات التي يقومون بها وبعث روح التنافس بينهم فيما ينبغي أن يكون الميدان الحقيقي للتنافس
روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عه -: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» وفي رواية مطوَّلة عند البزار أن سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في المسجد عقب صلاة الصبح، وفيها أن الصدقة كان كسرة خبز في يد عبد الرحمن بن أبي بكر فأخذها منه وأعطاها لفقير يسأل في المسجد، ورواية البزار ضعيفة لأنها مرسلة، لكن نستأنس بها لاستجلاء سياق الحدث.
الجنة ليس مجرد خبر صادق من عند الله نؤمن به ونصدقه، بل هي الغاية والهدف من كل عمل يعمله المسلم، قال -تعالى-: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} وهي البوصلة التي يصبح المسلم ويمسي يتلمس طريقه بها ببذل الأعمال الصالحة دون كسل أو توانٍ.أعجب ما اشتمل عليه الحديث
ومن أعجب ما اشتمل عليه الحديث أن نجد أبا بكر الصديق لشدة اجتهاده - رضي الله عنه -، وحرصه على التقرب إلى ربه بمختلف طرائق الخير التي شرعها الله لعباده، قد فرغ من الأعمال الأربعة قبل صلاة الفجر، وقبل أن يعرف عظيم ثواب اجتماعها في يوم واحد، وتلك المبادرة وهذا الحرص هو من أورث أبا بكر مكانته الجليلة في هذه الأمة، والذي أورثه تبشير النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالجنة في ذلك اليوم.العبادات الأربع بالحديث
وللعبادات الأربعة المسؤول عنها في الحديث من الفضل ومن الثواب الرباني المتضاعف ما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوصي بها في مواضع عدة:- ففي فضل الصيام قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما مِن عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا في سَبيلِ اللهِ، إِلّا باعَدَ اللَّهُ، بذلكَ اليَومِ وَجْهَهُ عَنِ النّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا».
- وفي فضل اتباع الجنازة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن صَلّى على جِنازَةٍ ولَمْ يَتْبَعْها فَلَهُ قِيراطٌ، فإنْ تَبِعَها فَلَهُ قِيراطانِ، قيلَ: وما القِيراطانِ؟ قالَ: أصْغَرُهُما مِثْلُ أُحُدٍ»
- وفي فضل إطعام المساكين، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اتَّقُوا النّارَ ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ، فمَن لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»
- وفي فضل زيارة المريض، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن عادَ مَرِيضًا، لَمْ يَزَلْ في خُرْفَةِ الجَنَّةِ حتّى يَرْجِعَ»، وخرفة الجنة هي ثمارها وظلالها.
اجتماعها في يوم واحد
وتزداد هذه العبادات درجة وثوابا إذا اجتمعت من المسلم في يوم واحد، وهذا حال نادر، قل من يوفق له؛ حيث لم يجب من الصحابة عن أسئلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى أبي بكر الصديق، وعليه فينبغي للعاقل الاجتهاد في اللحاق بهذه القلة، والموفق من وفقه الله -عز وجل- وقد ذكر أهل العلم فائدة من هذا الحديث أن المطلوب هو اجتماع العبادات الأربعة وليس ترتيبها كما وردت، فالعبرة بفائدتها التزكوية وليس بالترتيب.برنامج تربوي عملي متكامل
وتعد هذه العبادات باجتماعها في يوم واحد برنامجا تربويا عمليا متكاملا، ينبغي للوالدين والمربين الحرص على تفعيله، سواء في ذاتهم أم من تحت ولايتهم:- فالصيام مدرسة الاستحضار الدائم للمراقبة الربانية، وتهذيب للنفس بالجوع، وتذكير بالمواساة للفقير، وتضييق لمسالك الشيطان، ومضعف لشدة الشهوات.
- وفي أثناء الصيام يكون إطعام المسكين حال جوعك دافعًا، لاستحضار نعمة الله الذي رزقك الطعام وأنت تخرج من رزقه شكرا وقربة لوجهه، وتستعين به لإتمام عبادتك له.
- ويتكامل معه زيارة المريض الذي ربما كان غير قادر على الصيام، فنتذكر نعمة الصحة والقدرة على التعبد بما لا يقدر المريض عليه، وتتأمل في تقلب الحال البشري بين القوة والضعف.
- وتكون الجنازة وحضور الدفن ومشاهدة القبور تذكيرا بفناء الدنيا وحقارتها، ودعما للنفس في صيامها وصدقتها وعيادتها للمريض، وحثا على الاستزادة من الباقيات الصالحات التي تصحب الإنسان في القبر.
أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم
ومن أجمل ما نستخلصه تربويا من الحديث أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ عدل عن الأسلوب الخبري المباشر في الخطاب لبيان فضائل الأعمال إلى ما يشبه أن يكون مسابقة علنية مفتوحة لأهل المسجد والمسلمين كافة، بتكرار سؤاله أيكم؟ أيكم؟، وهذا الأسلوب على ما فيه من التجديد والطرافة، يحمل من وجه آخر شدة اهتمام المربي العظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتفقد أحوال من يربيهم، وسؤاله إياهم عن أعمال الطاعات التي يقومون بها، وبعث روح التنافس بينهم فيما ينبغي أن يكون الميدان الحقيقي للتنافس.الفوائد العقائدية
وقد حوى الحديث الجليل -إلى جوار ما سبق من الفوائد التربوية- عددا من الفوائد العقائدية، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» يعني أنه يدخلها بغير حساب، وإلا فإنه يكفي لدخول الجنة مجرد الإيمان، والفضيلة هنا في كون هذه الأعمال تجعل صاحبها يدخل باجتماعها الجنة بغير حساب، وفي الحديث شاهد لعقيدة أهل السنة أن الأعمال الصالحة تتفاضل، وأنها من أسباب زيادة الإيمان، كما أن فيه شاهدا لتفاضل أهل الإيمان في قوة الإيمان وتفاضلهم في درجاتهم.الفوائد الفقهية
كما أن فيه العديد من الفوائد الفقهية، كجواز الإخبار عن أعمال الطاعات التي عملها الإنسان مع توقي الرياء والإعجاب، وفيه عدم كراهة رد السؤال بكلمة (أنا)، لكن تكون الكراهية لهذا اللفظ إذا صدر الرد عن إثبات النفس ورعونتها، وتوهم كمال ذاتها وحقيقتها، كما صدر عن إبليس حيث قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} (الأعراف: 12)، ونحو ذلك مثل أنا العالم وأنا الزاهد وأنا العابد. وفيه بيان جواز طلب سؤال الأموال والصدقات داخل المسجد دون إلحاح أو إيذاء بتخطي الصفوف، وهو قول الجمهور ومنعه الأحناف مطلقا. وفيه جواز التصدق داخل المسجد على من سأل دون إلحاح أو إيذاء بتخطي الصفوف، فإن ألح أو تجاوز الصفوف وآذى المصلين حرم التصدق عليه باتفاق أهل العلم، ففيه إعانة على منكر.
لاتوجد تعليقات