وقفات تربوية من أحاديث خير البرية (2) الدنيا سجن المؤمن
- الدنيا سجن لجوارح المؤمن عن المحرمات التي إن حبسها زاد إيمانه والسجن هنا بمفهوم حبس النفس المؤمنة عن الشهوات المحرمة بحسب الخطاب الشرعي
- جنة المؤمنين في الدنيا في قلوبهم بطاعتهم لله وقربهم منه وهم في نعيم مع كل حال من أحوال القدر
روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»، أورد مسلم هذا الحديث الشريف في افتتاح كتاب الزهد من صحيحه، وكأنه يشير إليه بوصفه موجها أول لفهم حقيقة الزهد في الدنيا ولضرورة أن يضبط المسلم تصوره عنها عبره، فحياة المسلم يراها طريقا طويلا عديد المنازل، ويرى الدنيا أحد هذه المنازل وليس أفضلها، فضلا عن أن تكون آخرها أو أن تكون هي المستقر.
ولنا وقفات مع هذا الحديث الجليل:وقفة مع معنى (الدنيا)
تحمل الدنيا العديد من المعاني والظلال فهي الكلمة المفتاحية في الحديث، فهي في اللغة مؤنث الأدنى، وهو الأقرب، ومنه قول الله -تعالى-: {قطوفها دانية} أي قريبة يتناولها أهل الجنة بيسر، وسمى الله دارنا التي نحياها بالدنيا، وهو اسم يحمل معنى التسفُّل والتنقُّص، فأصلها الدنو، وهو أصل كلمة الدنيَّة أيضا بمعنى النقيصة، كما في قوله -تعالى-: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة:61)، وسميت الدنيا أيضا، لسبقها للآخرة، وقيل لقرب زوالها، وجاء في الحديث أن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وأنها أهون عند الله من هوان جدي ميتٍ عند الناس. إن كانت الدنيا موصوفة بأنها الأقرب في زوالها والأعجل للإنسان، وموصوفة بالدنو، فلابد للمؤمن العاقل أن يؤثر ضيق السجن القريب الأدنى ثقة في سعة الجنة في الآخرة، ولا جناح عليه أن يسجن في دار النقائص والعلة فنعيمها منقطع زائف، فليتصبر السجين فسرعان ما سيفرج عنه، وأما عن هوانها عند الله ففيه تنبيه للمؤمنين ألا يغتروا بها لحقارتها ولكونها متاعا قليلا. الكافر يفرح بالجنة القريبة وملاذِّها في الدنيا، ويسخر من المؤمنين المصدقين بالجنة البعيدة، قال -تعالى-: {زُيِّن للذينَ كفروا الحياةُ الدنيا ويسخَرُونَ من الذين آمَنُوا} (البقرة:212)، حينها نعلم غروره وخسرانه؛ حيث أُغرِم بالنقص وتمتع بالزائل الزائف، وباع دنياه بآخرته، فبئست الصفقة، ونعلم جهله أيضا؛ حيث يرى هذا المتاع الزهيد جنة تستحق الصراع والمغالبة، قال -تعالى-: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (البقرة: 196).وقفة مع معنى (سجن المؤمن)
فالدنيا سجن لجوارحه عن المحرمات التي إن حبسها زاد إيمانه، والسجن هنا بمفهوم حبس النفس المؤمنة عن الشهوات المحرمة بحسب الخطاب الشرعي. الدنيا سجن المؤمن، فلا تنتظر أيها المؤمن الراحة فيها، واستعد لما تلقاه من متاعب ومصاعب، وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجنة حفت بالمكاره، فالصبر عليها هو طريق الجنة، وهي جنة الكافر بنظره مقارنة بما ينتظره من العذاب يوم القيامة. الدنيا سجن؛ لأن فيها التكفير لذنوب المؤمنين بصور البلاء والمصائب والكفارات والحدود، ويصدق ذلك ما صح من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى الله وما عليْهِ خطيئةٌ». الدنيا سجن؛ لأن الله يحول بأقداره بين عباده وبين التمتع بها ليكون نصيبهم عنده من النعيم كاملا لم يتعجلوا منه شيئا في الدنيا، وقد صح في المسند عنه صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الله لَيَحْمي عَبدَه المُؤمِنَ مِن الدُّنيا، وهو يُحِبُّه، كما تَحْمون مَريضَكُم مِن الطَّعامِ والشَّرابِ تَخافونه عليه».الأغنياء والفقراء من المسلمين
الأغنياء والفقراء من المسلمين والمؤمنين كلاهما مسجون في الدنيا، فالفقير مسجون عن إدراك شهواته وملاذِّه بفقره، والغني مسجون عن الاكتساب إلا من الحلال، ومسجون عن الإنفاق إلا باعتدال، ومسجون عن الإنفاق إلا في رضى الله -عزوجل-، وسجن الغني أصعب لوجود المال في يده وقوة الداعي للإنفاق، وكلاهما خلاصه يوم القيامة في النعيم المقيم.حقيقة نعيم المؤمن في الدنيا
قد يكون المؤمن في هذه الحياة الدنيا ممتعًا يأكل من طيباتها، وينعم بنعيمها ومع ذلك هي سجن له؛ لأن له عند الله من النعيم المقيم واللذات غير المتناهية، فالجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فمن يقارن نعيم الدنيا بنعيم الآخرة يجد الدنيا سجنا ليس أكثر.بين نعيم الآخرة ونعيم الدنيا
وذُكر أن الحافظ ابن حجر لما مر قاضي القضاة يوما بالسوق في موكب عظيم وهيئة جميلة، فهجم عليه يهودي يبيع الزيت وأثوابه ملطخة، فقبض على لجام بغلته وقال: يا شيخ الإِسلام تزعم أن نبيكم قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»، فأي سجن أنت فيه؟ وأي جنة أنا فيها؟، فقال الحافظ: أنا بالنسبة لما أعد الله لي في الآخرة من النعيم كأني الآن في السجن، وأنت بالنسبة لما أعد لك في الآخرة من العذاب الأليم كأنك في الجنة فأسلم اليهودي.جنة المؤمنين في الدنيا
جنة المؤمنين في الدنيا في قلوبهم بطاعتهم لله وقربهم منه، وهم في نعيم مع كل حال من أحوال القدر، فإن أصابتهم ضراء صبروا وإن أصابتهم سراء شكروا، وأما الكفار إذا أصابهم الضراء في هذه الدنيا، فإنها تضيق عليهم أشد من ضيق السجون، وربما ينتحرون لعدم صبرهم على أقدار الله.حياة أشرف الخلق - صلى الله عليه وسلم
كان أشرف الخلق وأكرمهم عند الله رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يحيا حياة بهذه النظرة للدنيا في تقلله من الدنيا ما استطاع وزهده فيها، كما جاء في الحديث المتفق عليه عن عمر قال: «دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئا على وسادة من أدم (جلد)، حشوها ليف، قلت: يا رسول الله، ادع الله فليوسع على أمتك؛ فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله! فقال: «أو في هذا أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» وفي رواية: « أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟». الجنة هي الموطن الأصلي لبني آدم وحُبِسوا عنها في هذه الدنيا بعد نزول آدم -عليه السلام- إلى الأرض. الخروج من الدنيا هو لحظة الحرية والراحة الحقيقية للمؤمن، كما جاء عند البخاري أنَّ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عليه بجِنَازَةٍ، فَقالَ: «مُسْتَرِيحٌ ومُسْتَرَاحٌ منه! قالوا: يا رَسولَ الله، ما المُسْتَرِيحُ والمُسْتَرَاحُ منه؟ قالَ: العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنْيَا وأَذَاهَا إلى رَحْمَةِ الله، والعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ منه العِبَادُ والبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ». سجن الدنيا يبيعه المؤمن لله إيثارا لما عنده: «إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» (التوبة: 111).وقفة مع معنى (جنة الكافر)
- الكافر لا يؤمن بالبعث بعد الموت؛ فصارت له الدنيا كالجنة فهي بالنسبة له نهاية المطاف.
- الكافر حريص على الحياة ويراها جنته على ما بها من كدر وتنغيص؛ لما يعلم أن له بعدها العذاب المقيم: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) (البقرة:96).
- الكافر إن عمل بعض العمل الصالح ابتغاء وجه الله فإنه يثاب به في الدنيا، فتكون الدنيا جنته على عمله الصالح، وليس له في الآخرة من نصيب، كما قال - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنةً يُعطى عليها في الدنيا ويُثابُ عليها في الآخرة، وأما الكافر، فيُطعَمُ بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنةٌ يُعطى بها خيراً».
لاتوجد تعليقات