وقفات تربوية من أحاديث خير البرية – سداد دَيْن جابر بن عبدالله رضي الله عنه
- ترك عبدالله بن حرام لجابر من الأخوات ما اختلفت فيه الروايات بين ست وتسع بنات وهو عائلهن الوحيد
- تظهر القصة تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشفقته على أسرة صاحبه الشهيد عبدالله بن حرام
- وصية والد جابر له ليلة استشهاده بقضاء دينه تعبر عن إرادته لأداء أموال الناس
روى البخاري عن جابر بن عبدالله: «أنَّ أباهُ اسْتُشْهِدَ يَومَ أُحُدٍ، وتَرَكَ سِتَّ بَناتٍ، وتَرَكَ عليه دَيْنًا ثَلاثِينَ وسْقًا، فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يأخذوا التَّمْرَ بِمَا عَلَيْهِ، فَأَبَوْا وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ فِيهِ وَفَاء، فَلَمّا حَضَرَ جِدادُ النَّخْلِ أتَيْتُ رَسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ قدْ عَلِمْتَ أنَّ والِدِي اسْتُشْهِدَ يَومَ أُحُدٍ، وتَرَكَ عليه دَيْنًا كَثِيرًا، وإنِّي أُحِبُّ أنْ يَراكَ الغُرَماءُ، فَقالَ لأصْحابِهِ: «امْشُوا نَسْتَنْظِرْ لِجابِرٍ مِنَ اليَهُودِيِّ» فَجاؤُونِي في نَخْلِي، فَجَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- يُكَلِّمُ اليَهُودِيَّ، فيَقولُ: أبا القاسِمِ لا أُنْظِرُهُ، فَلَمّا رَأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- قامَ فَطافَ في النَّخْلِ، ثُمَّ جاءَهُ فَكَلَّمَهُ فأبى، فَقُمْتُ فَجِئْتُ بقَلِيلِ رُطَبٍ، فَوَضَعْتُهُ بيْنَ يَدَيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم- فأكَلَ، ثُمَّ قالَ: «أيْنَ عَرِيشُكَ يا جابِرُ؟» فأخْبَرْتُهُ، فَقالَ: «افْرُشْ لي فيه» فَفَرَشْتُهُ، فَدَخَلَ فَرَقَدَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَجِئْتُهُ بقَبْضَةٍ أُخْرى فأكَلَ منها، ثُمَّ قامَ فَكَلَّمَ اليَهُودِيَّ فأبى عليه، فَقامَ في الرِّطابِ في النَّخْلِ الثّانِيَةَ، وَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ، قالَ: «اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ على ناحِيَتِهِ»، فَفَعَلْتُ ثُمَّ دَعَوْتُهُ، فَلَمّا نَظَرُوا إلَيْهِ أُغْرُوا بي تِلكَ السّاعَةَ، فَلَمّا رَأى ما يَصْنَعُونَ أطافَ حَوْلَ أعْظَمِها بَيْدَرًا ثَلاثَ مَرّاتٍ، ثُمَّ جَلَسَ عليه، ثُمَّ قالَ: «ادْعُ أصْحابَكَ»، فَما زالَ يَكِيلُ لهمْ حتّى أدّى اللَّهُ أمانَةَ والِدِي، وأَنا واللَّهِ راضٍ أنْ يُؤَدِّيَ اللَّهُ أمانَةَ والِدِي، ولا أرْجِعَ إلى أخَواتي بتَمْرَةٍ، فَسَلِمَ واللَّهِ البَيادِرُ كُلُّها حتّى أنِّي أنْظُرُ إلى البَيْدَرِ الذي عليه رَسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-، كَأنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ تَمْرَةً واحِدَةً.» هذا اللفظ مجمع من الأحاديث أرقام 2395، 2396، 2528، 2781، 5443.
تركة كبيرة بين دين وبنات
استشهد عبدالله بن حرام - رضي الله عنه - في غزوة أحد، وكان من آخر كلامه لولده جابر - رضي الله عنه - (راوي الحديث)، أنه أوصاه بقضاء دينه، وكان دينا ثقيلا يقدر بنحو أربعة أطنان من التمر، وكان أصحاب الدين يهودا، كما ترك عبدالله بن حرام - رضي الله عنه - لجابر - رضي الله عنه - من الأخوات ما اختلفت فيه الروايات بين ست وتسع بنات، وهو عائلهن الوحيد. وهذه تركة كبيرة بين دين وبنات، ولكن الذخيرة والكنز الذي تركه له معينا على هذه التركة هي محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، والثقة بموعود الله في قوله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) (النساء:9).الله لا يضيع أجر من أحسن عملا
فيحين موعد قضاء الدين فيعرض جابر - رضي الله عنه - على الغرماء كل ما على النخل الذي ورثه من تمر فرفضوا لعلمهم أنه لا يفي بدينهم، وهذه من حكمة الله وابتلائه للمؤمنين عامة ولجابر خاصة، ليتيقن منذ البداية من عجزه على الوفاء وليصبر على هذه الأزمة، فينال أجرها وترتفع درجته بها، ثم يفتح الله بمعجزة على يد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، يعلم بها كرامة والده الشهيد عند الله، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولو كان في النخل وفاء بالدين لما أطلع جابر واطلعت الأمة عل هذه المعجزة، ولما فاز جابر بدرجة الصابرين في الضراء والشاكرين في السراء.تواضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وشفقته
ومن أعظم ما تجد في هذا الموقف تواضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وشفقته على أسرة صاحبه الشهيد عبدالله بن حرام، ويقدم لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أعظم المثل على متابعة الداعية لقومه ومعايشته لهم في كل مناحي الحياة وعدم اقتصاره على مسجده ومنبره، فيذهب بنفسه وهو خير من وطئ الحصى، وسيد ولد آدم، ويصطحب معه وزيراه، أبا بكر وعمر وآخرين ليستنظروا اليهود لجابر، ولكي لا يظهر جابر أمامهم ضعيفا بلا سند بعد استشهاد أبيه. ويلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صاحب الدين اليهودي، ويتواضع ويتنزل ليكلمه شافعًا في تأخير الدين أو النزول عن بعضه المرة بعد المرة، ثلاث مرات، ولكنه تأبى نفس اليهودي الدنيئة أن يقدر شفاعة خير الخلق ويرد عليه ثلاث مرات مغلفا رده بنوع من التوقير السمج المصطنع، فيخاطب اليهودي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بأبي القاسم، ولو كان توقيره لمقام النبي صادقا لأجاب شفاعته، لكن هيهات نفس الدنيء تطاوعه، فهم أحرص الناس على الدنيا والمال.دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم- بالبركة والنماء
وأمام هذا التعنت والصلف، كان جواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غاية في السكينة والهدوء؛ إذ ترك اليهودي ليرقد تحت العريش، في تواضع على الأرض، ليبدو بمظهر المتجاهل له ولباقي الدائنين، وليبث في نفس جابر والحاضرين من أصحابه معاني الثقة في الله وفي مدده، إضافة إلى تجوله في الحديقة - صلى الله عليه وسلم- ودعائه ربه -عزوجل- فيها بالبركة والنماء، وأنعم به من دعاء، لو عقله المسلم ما انقطع عنه طرفة عين. وتكون المعجزة حين يجلس - صلى الله عليه وسلم- بنفسه على كوم من التمر، ليباشر بيده الشريفة وزن التمر وسداد الدين، طمأنة لجابر، وإغاظة لليهود، فيكثر التمر ببركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فيوفي اليهودي دينه من كوم واحد دون أن ينقص منه تمرة، ويقضي الله الدين عن أوليائه بفضله، ويحفظ عليهم أموالهم وحديقتهم كاملة بعدما ظنوا ألا سبيل ولا فرج، وبعدما كانت نفوسهم قابلة بسداد الدين ولو لو تبق بعده تمرة واحدة، ويختم جابر القصة بإرجاع الفضل والمنة لله وحده، مع الافتقار والتذلل والثناء قائلا: «أدّى اللَّهُ أمانَةَ والِدِي».تطبيقا عمليا لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم
ونجد في الحديث تطبيقا عمليا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه»، فوصية والد جابر له ليلة استشهاده بقضاء دينه تعبر عن إرادته لأداء أموال الناس.فوائد الحديث
حفل الحديث بعدد من الفوائد الفقهية نذكر منها ما يلي:- في الحديث أن قضاء دين الميت واجب على ورثته، ومقدم على حقوقهم في التركة.
- جواز المعاملات المالية مع الكافر غير المحارب.
- جواز طلب تأخير الدَّين وإنظار المدين برضا الدائن وبما لا يضره.
- وفيه استحباب الشفاعة لأصحاب الديون والحاجات ولا سيما الضعفاء منهم؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم-: «اشفعوا تؤجروا».
ألفاظ الحديث
- وسْقًا: هو وحدة حجم وليس وزنا وهو ستون صاعا، ويزن نحو 130 كجم، فجملة الدين نحو أربعة أطنان
- جِدادُ النَّخْلِ: قطع ثمار النخل وحصادها.
- نَسْتَنْظِرْ: نطلب تأخير سداد الدين ومنحه نَظِرة وهي المهلة.
- الرِّطابِ: أحد مراحل النضج لثمر النخل قبل أن يصير تمرا.
- فَبَيْدِرْ: أي اجعله في البيدر وهو مكان تجفيف التمر.
- أُغْرُوا: ألحوا في المطالبة.
لاتوجد تعليقات