رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: محمد الباز 25 أغسطس، 2024 0 تعليق

وقفات تربوية  من أحاديث  خير البرية – استشهاد عبد الله ابن حرام

  • الرعيل الأول بلغوا كمال الإيمان بصدق محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم  وتقديمها على محبة الولد والمال والأرواح
  • في الحديث إثبات وقوع الكرامات لأولياء الله ومنه استشعار بعض المؤمنين لدنو أجلهم وإخبارهم بذلك
  • جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أحد السبعة المكثرين من الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم الذين جاوزت أحاديثهم في الكتب الستة أكثر من ألف حديث لكل منهم
 

روى البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ -رضي الله عنهمَا-، قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَإِنِّي لاَ أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ، غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، «فَأَصْبَحْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ»

        جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أحد السبعة المكثرين من الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم الذين جاوزت أحاديثهم في الكتب الستة أكثر من ألف حديث لكل منهم، وهو وأبوه من الذين بايعوا بيعة العقبة الثانية قبيل الهجرة النبوية مباشرة، ووالده عبدالله بن حرام كان نقيب قومه بني سلمة مكلفا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم البيعة، كما أنه من أهل بدر - رضي الله عنه .

حديث أبوي عذب

        ويروي جابر - رضي الله عنه - حديث والده ليلة أحد، وهو حديث أبوي عذب يفيض حنانا ورقة، يودع فيه أب ابنه وكان عمره يومها نحو 19 سنة، ولم يكن قد تزوج، ويستعد الأب للشهادة، بعد ما وقع في نفسه من أنه سيكون شهيدا صبيحة اليوم التالي، ورغم شدة الموقف وغلبة العاطفة، ومصارحته ولده بشدة محبته له، وهو الابن الذكر الوحيد بين تسع بنات، لكن هذه العاطفة لا تتقدم على محبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو أحب الخلق إليه ومحبته أشد من محبة ولده الذكر الوحيد، كما لا تتقدم على محبة الجهاد في سبيل الله، فما بلغ هذا الرهط من الرعيل الأول ما بلغوه من كمال الإيمان ومن منازل الجنان، إلا بصدق محبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقديمها على محبة الولد والمال والأرواح، وبالجهاد بالأفعال والأموال والدماء.

الفضل الرباني

        لقد عاين عبدالله بن حرام الموت يوم بيعة العقبة، حين أوشكت قريش أن تدرك أهل البيعة ليلتها، وعاينه يوم بدر مرة أخرى، فما ضعف وما استكان ولا داخل قلبه الخور أو التردد حين وقع في قلبه أنه مقتول صباحا، بل تقدم مفتديا دينه ومودعا متاع الدنيا بيقين راسخ بما ينتظره عند الله، وقد ظللته الملائكة بعد استشهاده، ووقع له من الفضل الرباني من لم يشهد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغيره من الصحابة الكرام؛ حيث قال لجابر: «ما كلَّمَ اللَّهُ أحدًا قطُّ إلَّا من وراءِ حجابِه وأحيا أباكَ فَكَلَّمَهُ كِفاحًا، فقالَ : يا عَبدي تَمنَّ عليَّ أُعْطِكَ قالَ : يا ربِّ تُحييني فأقتلَ فيكَ ثانيةً، قالَ الرَّبُّ -تبارك وتعالَى- : إنَّهُ قد سبقَ منِّي أنَّهم إليها لَا يُرجَعونَ». رواه الترمذي وابن ماجة.

اختيار لمكانته وشرفه فيهم

        ولا يظن ظان أن عبدالله بن حرام كان ثريا موسرا حين اختياره رسول الله نقيبا على بني سلمة، بل كان الاختيار لمكانته وشرفه فيهم، ولحسن دينه وإسلامه ومبادرته بالبيعة في مكة، فلم تكن العرب ترى المال شيئا بجوار الشرف، وكم ساد فيهم من لم يكن أكثرهم مالا كعبد المطلب وأبي طالب في قريش؛ لذلك نجده في وصيته لولده جابر بعد وصيته برسول الله يوصيه بقضاء دينه، وكان مدينا دينا عظيما لتاجر من يهود المدينة، وكان من ضخامة الدين أنه حين رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمر حديقتهم، وهو كل ما تنتجه عبر عام كامل، أخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يراها تسد دين عبدالله. ولم يكن أنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحتى الموسرين منهم، أرباب رفاهية وتنعم، بل كانوا كالرجال الذين لهم همومهم وعيالهم، وديونهم التي تحملوها لإيواء إخوانهم الذين هاجروا إليهم، بل الكثيرون منهم أصحاب فقر وفاقة ومعاناة، ولم يمنعهم ذلك عن التضحية في سبيل الله بما يملكون في سبيل إقامة هذا الدين وتدعيم دولته الناشئة في المدينة.

الحديث حمل لنا كرامتين

        وحمل لنا الحديث كرامتين، الأولى- حين ألهم عبدالله بن حرام أنه مقتول صبيحة يوم أحد، فصدق وكان أول من قتل، والثانية- أن الأرض لم تأكل شيئا من جسده رغم مرور ستة أشهر على استشهاده، وفي ذلك إثبات وقوع الكرامات لأولياء الله من الطائعين، ومنه استشعار بعض المؤمنين لدنو أجلهم وإخبارهم بذلك، وهو معروف ومتكرر إلى اليوم.

استحباب الوصية قبل الموت

        كما حفل الحديث بالعديد من الأحكام الفقهية مثل استحباب الوصية قبل الموت، ووجوب قضاء دين الميت على ورثته، وجواز دفن اثنين في قبر واحد لضرورة، وقد وقع في أُحد دفن ثلاثة في قبر واحد، لكثرة شهداء هذا اليوم وضعف المسلمين عن القدرة على الحفر؛ بسبب كثرة الجراح، والتعجل للاستعداد لمعركة أخرى وشيكة مع كفار قريش، وفيه جواز استخراج جثمان الميت ونقله لمصلحة، وفي قول جابر - رضي الله عنه - «فكان أول قتيل» إشارة لعدم جواز إطلاق وصف شهيد على القتيل بغير خبر صحيح من الوحي؛ لأنه من علم الغيب، ولكن نقول نحسبه شهيدًا.

جواز محبة أحد الأبناء محبة زائدة

         وفيه أيضا جواز محبة أحد الأبناء محبة زائدة على غيره من إخوته، بشرط ألا يؤثر ذلك على العدل بين الأبناء، وفيه بر جابر بأبيه ومحبته له وغيرته عليه، فلم يطق أن يكون أحد مع أبيه في قبره فاستخرجه بعد ستة أشهر ليكون له قبر خاص، وقد قضى دينه، واختار أن يتزوج ثيبا للقيام بشؤون أخواته، مقدما سعادتهن على سعادته. ونختم هذه الفوائد بطرفة علمية، وهي كون هذا الحديث يعد حديثا نبويا بالرغم من أنه ليس فيه شيء من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه حوى إقراره - صلى الله عليه وسلم - لاستخراج جثة عبدالله بن حرام وإعادة دفنها في قبر منفصل، فهي سنة تقريرية وليست قولية، وهي أحد فروع الحديث النبوي.  

معاني الكلمات

  • لَمْ تَطِبْ نَفْسِي:  لم ترتح نفسي
  • هُنَيَّةً: تصغير هُنا، أي: قريباً
  • غَيْرَ أُذُنِهِ: أثر تغير بسيط في أذنه

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك