وقفات تربوية في ضوء السنة النبوية
إنّ مَن يتأمل السُّنة النبوية المطهرة، قراءة أو سماعًا أو دراسة، يجد نفسه أمام وقفات تربوية وإيمانية فيها الحل الشافي لأزمة الأمة الأولى في هذا العصر، وهي التّربية في رحاب الأسرة التي تعد الدرع الحصينة والحصن الأخير الذي يريدون هدمه؛ فتارة يستهدفون الأمومة بأكذوبة تحرير المرأة، وتارة البنوة وتربية الأبناء بدعوى الحرية.
السيرة الكاملة الشاملة
إنّ سيرة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم - هي السيرة الكاملة الشاملة لأطوار الحياة جميعها، ولا يُمكن أن تكون حياة أحد كائنًا من كان مثالاً يُحتذى به إلا إذا توافر لها عنصران:
- أولهما: الدقة والصحة في نقل تفاصيل تلك الحياة.
- والآخر: أن يكون صاحبها متصفا بالكمال في جميع جوانب حياته.
وهذان الأمران لم يتوافرا لأحد في التاريخ البشري المدون كما توافرا لنبي الإسلام محمد- صلى الله عليه وسلم -؛ فحياته من ميلاده إلى ساعة وفاته معلومة للذين عاصروه وشاهدوه، وحفظها التاريخ عنهم لمن بعدهم.
وقفات تربوية عن صحيح المعتقد والقدوة
كثيرٌ من الناس يتعجب من عبد الله بن عباس-رضي اللله عنهما-، كيف أصبح غلامًا فقيهًا مفسرًا بحرًا يدخله عمر مجلسه على أشياخ بدر، فيقولون لعمر: «لِم تدْخِل هذا الفتى معنا ولنا أبنْاءٌ مِثلْه؟ فقال عمر: إِنّه مِمّنْ قدْ علِمْتمْ، فدعاهمْ ذات يوْمٍ ودعاه معهمْ، فقال: ما تقولون فِي قوله -تعالى-: {إِذا جاء نصْر اللّهِ والْفتْح (1) ورأيْت النّاس يدْخلون فِي دِينِ اللّهِ أفْواجًا} (النصر 1-2)؟ حتّى ختم السّورة، فقال بعْضهمْ: أمِرْنا أنْ نحْمد الله ونسْتغفِره إِذا نُصِرْنا وفُتِح علينْا، وقال بعْضهمْ: لا ندْرِي أوْ لمْ يقلْ بعْضهمْ شيئْا؟ فقال لِي: يا ابنْ عبّاسٍ، أكذلك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسولِ اللهِّ - صلى الله عليه وسلم - أعْلمه الله له {إِذا جاء نصْر اللّهِ والْفتْح} فتح مكّة، فذاك علامة أجلِك {فسبِّحْ بِحمْدِ ربِّك واسْتغْفِرْه إِنّه كان توّابًا} (النصر: 3)، قال عمر: ما أعْلم مِنها إِلّا ما تعْلم.
عامل القدوة
وفي مجال الحديث عن الوقفات التربوية في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه من الضروري أن ينتبه الآباء والأمهات والمربون لعامل القدوة، الذي جعل أغلب المجتمع -إلا من رحم ربي- يُعاني انفصامًا في شخصيته، لوجود اصطدام واضح أمام الطفل بين التوجيه النظري والفعل العملي من قدوة الطفل المتمثلة في شخصية والديه أو معلمه أو حتى شيخه.
القدوة وتطابق التوجيه النظري
ومسألة القدوة وتطابق التوجيه النظري مع ما يفعله القدوة عمليًّا أمر في غاية الخطورة في حياة الطفل، وهو ما جعل طفلًا كابن عباس - رضي الله عنه -، يتربى على السلوك القويم والنفسية الملتزمة في السر والعلن؛ إذ لما بات ليلة عند خالته ميمونة ونام عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجرته رأى من ليل النبي عمليًّا ما يأمر به الناس نظريًّا، فرأي رسول الله نام، ثم قام، فمسح النوم عن وجهه، وقرأ العشر الخواتيم من آل عمران، ثم قام إلى قربة معلقة فتوضأ منها وضوءًا خفيفًا، ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم اضطجع، ثم صلى ركعتي سنة الفجر.
مراعاة حاجة الطفل النفسية
ولابُد من مراعاة حاجة الطفل النفسية للعب واللهو، فكما أننا نعطي الطفل جرعات التربية على معالي الأمور، فكذلك نراعي حاجته للهو واللعب، بل ونغض الطرف أحيانًا عن تقصيرهم في بعض الأمور من أجل هذه الحاجة، وفيما أورد الإمام مسلم (2312): قال أنسٌ: «كان رسول اللهِّ مِنْ أحْسنِ النّاسِ خلقًا، فأرْسلنِي يوْمًا لِحاجةٍ، فقلت: واللهِّ لا أذْهب وفِي نفْسِي أنْ أذْهب، لِما أمرنِي بِهِ نبِيّ اللهِّ، فخرجْت حتّى أمرّ على صِبيْانٍ وهمْ يلعبون فِي السّوقِ، فإِذا رسول اللهِّ قدْ قبض بِقفاي مِنْ ورائِي، قال: فنظرْت إِليهِ وهو يضحك، فقال: يا أنيس، أذهبت حيثْ أمرْتك، قلت: نعمْ، أنا أذْهب يا رسول اللهِّ. قال أنسٌ: واللهِّ لقدْ خدمْته تِسْع سِنِين، ما علِمْته قال لِشيْءٍ صنعْته، لِم فعلت كذا وكذا، أوْ لِشيْءٍ تركْته، هلاّ فعلت كذا وكذا».
الرحمة من أهم الوقفات
وتدخل الرحمة ضمن أهم وقفات تربوية يمكن أن يتعلم منها المسلم، فالنبي- صلى الله عليه وسلم - خفّف الصلاة مرة من أجل بكاء طفل كي لا يشق على أمه، وحمل أمامة بنت بنته زينب في الصلاة وهو إمام، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها، وكان يجلس أسامة بن زيد على فخذه والحسن بن علي على فخذه الآخر، ثم يقول: «اللهمّ ارْحمْهما فإِنِّي أرْحمهما».
الرحمة بالحيوان
بل إن هذه الرحمة تجاوزت البشر إلى الحيوانات، فعن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - قال: «أردَفَني رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَلفَهُ ذاتَ يومٍ، فأسرَّ إليَّ حَديثًا لا أحدِّثُ بِهِ أحَدًا من النَّاسِ، وَكانَ أحبُّ ما استَترَ بِهِ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لحاجَتِهِ هَدفًا، أو حائِشَ نَخلٍ، قالَ: فدخلَ حائطًا لرَجُلٍ مِن الأنصارِ فإذا جَملٌ، فلَمَّا رأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حنَّ وذرِفَت عيناهُ، فأتاهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فمَسحَ ذِفراهُ فسَكَتَ، فقالَ: مَن ربُّ هذا الجَمَلِ؟ لمن هذا الجمَلُ؟ فَجاءَ فتًى منَ الأنصارِ فَقالَ: لي يا رسولَ اللَّهِ؛ فَقالَ: أفلا تتَّقي اللَّهَ في هذِهِ البَهيمةِ الَّتي ملَّكَكَ اللَّهُ إيَّاها؟ فإنَّهُ شَكا إليَّ أنَّكَ تُجيعُهُ وتُدئبُهُ» (مسلم).
وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه - قال: «كنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ؛ فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرةً معها فرخان، فأخذْنا فرخَيها؛ فجاءت الحُمَّرةُ فجعلت تفرشُ، فجاء النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: من فجع هذه بولدِها؟ رُدُّوا ولدَها إليها. ورأى قريةَ نملٍ قد حرقناها، فقال: من حرقَ هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يعذِّبَ بالنارِ إلا ربُّ النارِ» (رواه أبو داود).
تربية الطفل على الحلال والحرام
فعنْ أبِي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ الْحسن بنْ علِيٍّ أخذ تمْرةً مِنْ تمْرِ الصّدقةِ فجعلها فِي فِيهِ؛ فقال النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «كِخْ كِخْ! أما تعْرِف أنّا لا نأكل الصّدقة؟»، والحسن في ذلك الوقت كان طفلًا صغيرًا ربما لم يكمل عامين أو ثلاثة، لكن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه يدل على تأكيد تدريب الطفل على الحلال والحرام والورع أيضًا.
مما تعلمه أنس - رضي الله عنه
ومما تعلمه أنس - رضي الله عنه كما في الصحيحين وغيرهما-، قال: «انتْهى إِلينْا النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا فِي غِلمانٍ، فسلم علينْا، ثمّ أخذ بِيديّ، فأرْسلنِي بِرِسالةٍ، وقعد فِي ظِلِّ جِدارٍ أوْ فِي جِدارٍ حتّى رجعْت إِليهِ، فلمّا أتيت أمّ سليمٍ، قالتْ: ما حبسك؟ قال: قلت: أرْسلنِي رسول اللهِّ - صلى الله عليه وسلم - بِرِسالةٍ، قالتْ: وما هِي؟ قلت: إِنّها سِرٌّ، قالتْ: احْفظْ سِرّ رسولِ اللهِّ، فما أخْبرْت بِهِ بعْد أحدًا قطّ».
توجيه الأبناء
فليحرص الآباء على توجيه أطفالهم دائمًا في كل فرصة، وفي كل وقت، على الحلال والحرام والآداب، والأخلاق، ويكرسوا من وقتهم من أجلهم، بل وجب عليهم أن يقتطعوا من أوقاتهم ليجلسوا مع أبنائهم من أجل ذلك، وهذا أولى وأثمن في الدنيا والآخرة من جمع الأموال وإنفاقها عليهم.
التعرف على حياة النبي - صلى الله عليه وسلم
إن المسلمين في أشد الحاجة إلى التعرف على وقفات تربوية من حياة النبي- صلى الله عليه وسلم - وسيرته الطاهرة، ومعرفة سُنن الله في الشعوب والأمم والدول، وكيف تعامل معها النبي الكريم عندما انطلق بدعوة الله في دنيا الناس حتى نلتمس من هديه- صلى الله عليه وسلم - الطريق الصحيح في دعوتنا والتمكين لديننا، ونقيم بنياننا على منهجية سليمة مستمدة أصولها وفروعها من كتاب ربنا وسنة نبينا- صلى الله عليه وسلم -، الذي قال الله في حقه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21).
لاتوجد تعليقات