وقفات تربوية في الحج
لم يكلف الله تعالى الخلق بعبادته للعنت والمشقة، ولم يفرضها عليهم رغبة في الزيادة في ملك أو طمعاً في السلطان، فهو سبحانه الغني المستغني عن عباده، بل لا غنى للخلق عن ربهم طرفة عين، قال تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» رواه مسلم.
وقد فرض الله تعالى العبادة لما لها من أثر في النفس وعلى الأخلاق والسلوك، وبالرغم من تنوع هذه العبادات فإن الغاية العظمى منها هي تزكية النفس وتطهيرها والسمو بالأخلاق إلى الدرجة التي تؤهل العبد لدخول الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق». رواه أحمد.
فالحج ليس مجرد رحلة تعبدية يجهد فيها المسلم بدنه وينفق ماله دون أثر تربوي وبعد أخلاقي، بل هو عبادة تسمو بالروح إلى علياء التوحيد وتطهر النفس من أدران الذنوب، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}. وقال صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» رواه البخاري.
وللحج من الآثار التربوية على الفرد والأمة ما يحتاج إلى مجلدات لبسطه، فعبادة يتكامل فيها جهد الجوارح من إحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفة ورمي للجمرات، مع بذل المال في الهدي والنفقة، مع حضور القلب والنية والخشوع والتدبر لمقصد كل شعيرة ومعنى كل نسك، هذه العبادة جديرة بإطالة الوقوف عندها لاستخلاص العبر واستلهام الدروس، وسنقتصر على بعض الوقفات التربوية المنهجية الكبرى مع هذه العبادة، بعيداً عن الوقفات الإيمانية، التي تم إشباعها بحثاً وطرحاً.
ومن الآثار التربوية للحج ما يلي:
(1) أعظم درس تربوي من دروس الحج هو: قضية التوحيد.
فتوحيد الله تعالى هو أسمى عقائد الإسلام ولأجله خلق الله الخلق، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وشعائر الإسلام كلها جاءت لترسيخ التوحيد في النفوس، والتوحيد هو أصل المنهج الرباني ولا تزال الأمة بخير ما تمسكت به، ولم تذق طعم الذل وكيزان الهزائم إلا يوم أن فشا الشرك في كثير من أرجائها، حتى بات التوحيد ودعاته في غربة وقلة.
(2) ومن دروس الحج التربوية: تعظيم الله تعالى، فالله شرع حج بيته الحرام وعمارة تلك الأماكن المقدسة لإقامة ذكره وتعظيمه كما قال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} وقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ}، فتعظيم الله هو المقصود الأعظم من الحج والعمرة، قال تعالى في سورة الحج: {ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} قال مجاهد: «الحرمة: مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها» (الجامع لأحكام القرآن 12/54)، وقال القرطبي رحمه الله: «والحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج المشار إليها في قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الجامع لأحكام القرآن 12/54)، وقال ابن زيد رحمه الله: «الحرمات: المشعر الحرام والبيت الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، هؤلاء الحرمات» ( تفسير ابن كثير 3/229).
(3) ومن دروس الحج التربوية: فقه قوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج}. عندما أُمر إبراهيم عليه السلام بالأذان بالحج قال: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يأيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض وأسمع من في الأرحام والأصلاب وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك. ذكرها ابن كثير في تفسيره (3/217) وقال: هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف.
فالدعاة عليهم أن يدعوا إلى الله تعالى والنتائج على الله عز وجل، فليس المطلوب إجبار الناس على الدخول في دين الله أو حملهم على الخضوع للحق، فهذا ليس بمقدور البشر، إنما المطلوب البيان المبين والإخلاص في ذلك وحسن عرض الدعوة وقوة الحجة والإقناع، والله تعالى يبارك في الجهود حتى تؤتي أكلها.
(4) ومن دروس الحج التربوية: التربية على السلام؛ مصداقاً لقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}، والإسلام عندما نادى بالسلام وأمر به، لم يجعل ذلك مجرد شعار، بل عززه بعبادات عملية يتربى من خلالها المسلم على السلام وبذل السلام والعيش بسلام، وفي الحج يتلقى الحاج تربية عملية على السلام تشمل كل شيء: البشر والشجر والحيوان، فلا يجوز للحاج أن يؤذي الحجاج بأي نوع من أنواع الأذى، قال تعالى {ومن دخله كان آمناً} وحتى الجدال نُهي المحرم عنه لما يمكن أن يكتنفه من أذى قولي {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}.
إن إبراز حرص الاسلام على السلام من خلال الحج فقط يمكن أن يكون رسالة قوية للعالم أجمع بسمو وسماحة هذا الدين الذي لم تعرف البشرية ديناً سواه حث على السلام وأمر به وجعله عبادة يتعبد بها المسلم لله عز وجل.
(5) ومن دروس الحج التربوية: التربية على الانضباط، فالإحرام يكون من الميقات ولا يجوز أن يتعداه من أراد الحج دون أن يحرم منه، ومن تجاوزه فإنه يجب عليه أن يعود إليه ويحرم منه، وإلا وجب عليه دم شاة يذبحها ويوزعها على فقراء الحرم، ولكل منسك من مناسك الحج وقته وزمنه وأعماله التي لا يصح دونها؛ فلا يصح الوقوف في عرفة يوم التروية، ولا يصح الدفع من عرفة قبل غروب الشمس، ولو كانت الحاجة ملحة إلى ذلك، ولا يصح طواف الإفاضة يوم عرفة ولا يصح رمي الجمرة الصغرى أو الوسطى يوم النحر فلكل عمل وقته وأعماله، ومخالفة ذلك تؤدي إلى وقوعه على غير الوجه المشروع، وهذا شأن كل العبادات في الإسلام.
(6) ومن الدروس التربوية للحج: أن التغيير يكون من الداخل قبل الخارج؛ مصداقاً لقوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
فإذا نوى المسلم الاحرام وعزم عليه -وهذا تغيير من الداخل- ثم نطق بالإحرام لزمه أن يتجرد من هيئة اللباس التي اعتادها طيلة العام فيخلع ويتجرد من المخيط، ولزمه أن يقلع عما اعتاده من المباحات فيترك الطيب والنساء وتقليم الأظافر وقص الشعر وغيرها من محظورات الإحرام.
(7) ومن دروس الحج التربوية: قضية الهوية الحقيقية. فالانتماء لهذا الدين هو هوية الأمة الحقيقية، وهو وحده القادر على جمعها، بعد أن ثبت فشل كل النظم والمناهج الدخيلة من قومية وبعثية وشيوعية واشتراكية وعلمانية وغيرها، قال تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} وقال: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}.
فاجتماع الملايين من مختلف الأجناس والألوان ومن شتى البلدان والأصقاع في مكان واحد بزي واحد لأداء شعائر واحدة في وقت واحد، أكبر برهان على قدرة الإسلام على توحيد الأمة، وأنه هو السبيل الوحيد لذلك، قال صلى الله عليه وسلم: «يأيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد» رواه أحمد.
(8) ومن معالم التربية في الحج إظهار أن الإسلام قادر على جمع الأمة على فكرة واحدة وهم واحد، فملايين الحجاج يوم عرفة لا هم لديهم سوى الدعاء والتضرع والخضوع والسؤال، وبعد عرفة تجمعهم فكرة المبيت بمزدلفة، وهكذا، وفي يوم النحر تجمعهم هموم عدة لكنها مشتركة بين الجميع، ما بين رمي وحلق ونحر وطواف وسعي، ويوم أن ضعف تمسك الأمة بدينها تشتتت بها الهموم وتتالت عليها الأحزان وباتت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «غثاء كغثاء السيل». رواه أبو داود.
(9) ومن الدروس التربوية في الحج: التربية على قبول الخلاف والرأي الآخر، ما دام لهذا الرأي ما يسوغه من الأدلة والنصوص. فالحاج إذا وصل الميقات مخير بين أنواع ثلاثة من النسك: التمتع، أو الإفراد، أو القِران، ولكل نسك بعض ما يميزه عن غيره من الأنساك كما هو معلوم، وهو مخير كذلك بين التعجل يوم الثاني عشر أو التأخر {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ ومَـن تَـأَخَّـــرَ فَــلا إثْـمَ عَـلَـيْـهِ لِمَنِ اتَّقَى واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، ولا يجوز لمن أحرم متمتعاً أن ينكر على من أحرم قارناً، ولا يجوز للمفرد أن ينكر على من خالفه، وكذا لا يجوز للمتأخر إلى اليوم الثالث عشر أن ينكر على من تعجل؛ مما يدل على مرونة الشريعة وتقريرها لمبدأ «تعدد الصواب» إن صح التعبير، رغم ما قد يظهر من اختلاف ظاهر أو تعارض في الفعل الواحد.
يقول شيخ الإسلام: «كانوا يتناظرون في المسائل العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة».(مجموع الفتاوى 4/172–173).
(10) ومن الدروس التربوية في الحج: حرص الاسلام على قوة المسلمين، قال تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة}، وقال: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة}، وقال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير»، فعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة معتمراً، نظر مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما يفعلون وقد ظنوا أن حمى يثرب قد أوهنتهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرمل في الأشواط الثلاثة في الطواف إغاظة للمشركين وإظهاراً لقوة ونشاط المسلمين.
وهذا درس لمن أوهنتهم حمى التغريب وأصابتهم عدوى الليبرالية والعلمنة بأن يعتزوا بدينهم وأن يشمخوا بإيمانهم وأن يأخذوا ما آتاهم الله بقوة وأن يعملوا به بقوة ويقين بأن العاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.
(11) ومن الدروس التربوية في الحج: التطبيق العملي لقاعدة التيسير، والذي يبدأ من حين التلبية بالإحرام حيث يشترط الحاج الذي يخشى الفوات أو الإحصار فيقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، وكذلك الصلاة بعد الطواف جوز أن يصليها في أي مكان من المسجد الحرام إن لم يتمكن من أدائها خلف المقام أو كان في ذلك نوع من التضييق على الطائفين، ويوم التروية هو استعداد ليوم الحج الأكبر يوم عرفة، وبعد يوم عرفة الطويل شرع للحاج المبيت في مزدلفة استعداداً لأعمال يوم النحر الكثيرة والشاقة.
فيحسن بالعلماء ومن تصدى للفتوى أن يراعوا هذا المنهج في التيسير، فعليه يقوم الدين، والقاعدة المعروفة «المشقة تجلب التيسير» إنما انبثقت من رحم رحمة هذه الشريعة التي راعت الطبيعة البشرية فلم تكلف الإنسان ما لا يطيق، كما راعت الظروف الزمانية والمكانية للعبادات، وهذا باب واسع من أبواب الشريعة يحققه قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ}.
(12) ومن الدروس التربوية في الحج: الحث على الجماعة وأهميتها، ويتجلى هذا جلياً في أن أعظم ركن من أركان الحج «الوقوف في عرفة» يجتمع فيه الحجاج كلهم على صعيد عرفات، ومن فارق جماعة المسلمين في عرفة لم يقبل حجه. وفي جمع الصلاة في عرفة مظهر آخر من مظاهر الحرص على الجماعة رغم أن معظم الحجاج جاءوا من مسافات بعيدة تبيح لهم ترك الجماعة على أحد قولي أهل العلم، إلا أن مشروعية الصلاة جماعة على الواقفين في عرفة تؤكد الاهتمام الزائد باجتماع المسلمين في ترجمة عملية لقوله تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً. ثم شبك بين أصابعه» متفق عليه.
لاتوجد تعليقات