وضوح الرؤية لدى الدعاة
أول شروط الداعي وضوح الرؤية لديه؛ بحيث يعرف من أين يبدأ، وإلى أين يريد أن ينتهي؟ وما حدود المجال الذي سيعمل فيه؟ وقيمة كل دعوة في الهدف الذي يسعى الداعي إلى تحقيقه من وراء دعوته، ويرمي إلى تحصيله من خلال بلاغه؟ وكلما كانت الرؤية واضحة والهدف محددًا كان السير صحيحًا، والعمل متزنًا، والثمرة يانعة، وغاية الدعوة رضا الله -تعالى-، وتحقيق عبوديته في أرضه، وعمارة الكون عن طريق البلاغ.
إن وضوح هذه الرؤية هو الكفيل بتحديد ميدان المعركة الرئيسة وسط ميادين المعارك الثانوية؛ {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة:217)، وهو الكفيل بتبيان العدو، وهو الطرف الحقيقي وسط التابعين والمتداعين والمأجورين والمستعملين والمرتزقة، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة:120)، وهو الكفيل بترجيح منهج للتغيير من بين المناهج؛ {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11)، وهو الكفيل بتحديد رأس الأفعى من بين حبالهم وعصيهم التي تبدو وكأنها تسعى، حتى لا نصرف الضربة إلى حبالٍ وعصيٍّ تاركين الأفعى.
معرفة طبيعة المرحلة
إن وضوح الرؤية لا يكتمل إلا بمعرفة طبيعة المرحلة، وإدراك حجم التحديات التي تواجهنا، وتبين جوهر الرسالة الذي يميز هذه الفترة خاصة، ومنهج التغيير الذي يميزنا عن غيرنا، ثم باستيعاب الأدوار التي يلزم أن نؤديها، ومعرفة نقطة الوصول التي نسعى إليها، أو حالة النجاح في هذه المرحلة، مع إدراك حالات النصر ومعنى التمكين، التي لو تحققنا بها خلال فترة من الزمن لكُنَّا من الموفقين في مسعانا بفضل الله -عز وجل-، وهذا ما نرجو الله -تبارك وتعالى- أن يوفقنا إلى بيانه.
وضوح الأهداف
إن وضوح الأهداف يعين كثيرًا في الاعتبار بالماضي، واستبصار الحاضر، واستشراف المستقبل، ويدفع المرء إلى رسم أطر واضحة يعرف فيها بدقة الموضوعات التي سوف يتحدث عنها, والقواعد التي يريد بناءها, والأمراض الفكرية والمنهجية التي يقصد معالجتها, وأنسب السبل لتحقيق ذلك, ويعرف في ذلك الأولويات التي ينبغي البدء بها، ويحدد طريقة المعالجة، ونحو ذلك.
تحديد الهدف
إن تحديد الهدف في أي عمل يقوم به الإنسان يعد الخطوة الأولى للتخطيط الناجح؛ لأنه يتوقف عليه نوع الدراسة الموصلة إليه، كما يترتب عليه نوعية الوسائل التي يجب استعمالها لبلوغه، ومثل الذين يعملون من غير أن يحددوا أهدافهم كمثل إنسان يضرب في الصحراء دون أن يكون معه دليل يرشده، أو قائد يهديه، ولا شك أنه سيظل يسير حتى يمل السير، ويضرب في الأرض حتى يضطرب ويختل، والله -عز وجل- قد علمنا ذلك؛ فلما أراد أن يخلق آدم عليه السلام حدد الغاية من خلقه، فقال -عز من قائل- للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:30)، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56)، ثم وضح الوسائل المؤدية إلى ذلك بالشريعة التي شرعها لعباده، كما حدد -سبحانه- الهدف من إرسال الرسل؛ فقال -جل شأنه-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:25)، ثم برهن -سبحانه- بطريق النقل والعقل على صحة الهدف الذي دعاهم إليه.
وقبل أن يرسل موسى -عليه السلام-؛ بل قبل أن يتم فصامه، يبين ربنا -سبحانه وتعالى- الرؤية والهدف والغاية، قبل أن يبين الوسيلة (موسى عليه السلام): {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (القصص:5-7).
أعظم ضروريات الدعوة
إن من أعظم ضروريات الدعوة إلى الله -تعالى- أن يكون الداعية عالـمًا مدركًا لما يدعو إليه، فقيهًا فيه، قال -تعالى-: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108).
والبصيرة أخص من العلم العام، وفيها معنى زائد عليه، فهي تعني: البينة، والإدراك، والوضوح، والفهم، واليقين، ومن البصيرة: أن يدرك الداعية عواقب الأمور، وألا يغفل عن النتائج في أقواله وتصرفاته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فلا بد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر، العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان من الثلاثة مستصحبًا في هذه الأحوال».
الفقه قبل الأمر
فالفقه قبل الأمر؛ ليعرف المعروف وينكر المنكر، وهذا شرط من شروط الدعوة إلى الله -تعالى-، وواجب من واجبات الداعية؛ بحيث يكون الداعية مدركًا لما يدعو إليه، متحليًا بالفطنة، متسلحًا باليقين، ثابت الخطوة، واضح الرؤية في دعوته، ومدعويه، وفيمن حوله من أصدقاء وأعداء، وما يقع من أحداث، فكل هذه المعاني تتضمنها (البصيرة)، وهذا الشرط الذي ألزم الله به الدعاة في دعوتهم.
قدرًا من العلم يكفيه
ولهذا فلا يجوز للمسلم أن يدعو إلى الله إلا بعد أن يحمل قدرًا من العلم يكفيه في دعوته، وفهمًا ووضوحًا ينير له طريقه؛ فالعلم يسدد له مسيرته، والفهم يوضح له رؤيته، فمن لم يحمل العلم في دعوته انحرف، ومن لم يكن على بصيرة تعثر.
لاتوجد تعليقات