وصول أرقام العاطلين 25 مليونًا والعوانس 12 مليونًا يدق أجراس الخطر-العالم العربي على أعتاب كارثة اقتصادية واجتماعية
من يلقِ نظرة موسعة على أوضاع العالم العربي لا يجد صعوبة في تحديد ماهية المشكلات العديدة التي يعانيها والتراجع الكامل على مجمل الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية؛ فجميع المرافق في أغلب بلدان العالم العربي باستثناء القليل منها تواجه حالة من الانهيار، ويكفي مثلا على الصعيد الاقتصادي أن نذكر طبقا لتقرير صادر عن منظمة العمل العربية أن أعداد العاطلين في العالم العربي تتجاوز 25 مليون عاطل مرشحين للتزايد في ظل عدم وجود سياسات واضحة لمواجهة هذه المشكلة وعجز العديد من الدول العربية؛ بسبب انهيار البنية الأساسية وتخلف التشريعات الاقتصادية وعجزها عن جذب الاستثمارات العربية في الأسواق الدولية، التي تزيد بحسب تصريحات الأمين العام لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية د.أحمد جويلي على 4 تريليونات دولار موجود أغلبها في دول غربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي وبنوك سويسرا التي تستحوذ وحدها على أكثر من 50% من هذه الاستثمارات
وقد أتيحت لهذه الاستثمارات فرصة ذهبية للعودة للمنطقة إبان أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 بعد ما شهدته هذه الأموال المودعة في بنوك غربية من تجميد وتهديد بالمصادرة، ورغم التهديدات المحدقة بهذه الاستثمارات الضخمة إلا أن نسبة عودتها للمنطقة لم تتجاوز من 4:2% من جملة هذه الاستثمارات رغم أن عودة ولو نسبة 10% قادرة على معالجة أبرز مشكلات المنطقة التي تحولت الحياة في معظم دولها لجحيم لا يطاق؛ فالمواطن العربي في أغلب دولنا ولاسيما الفقيرة منها سدت في وجهه جميع سبل الحياة الكريمة، فلم يعد يتمتع بأي إمكانية لما يمكن أن نطلق عليه الحراك الاجتماعي، فالفرص أمامه للحصول على خدمة صحية وتعليمية أصبحت معدومة أو ضعيفة للغاية، بل في بعض البلدان نجد أن المستشفيات تحولت إلى أماكن لنشر الأوبئة عبر أكياس الدم الفاسدة و«فلاتر» الغسيل الكلوي.
انهيار تعليمي وصحي
وغدت العديد من البلدان العربية تعاني ضعفا شديدا في هذين المجالين، ففي المجال التعليمي انتشر الفساد وحدث غياب للكوادر القادرة على تقديم رسالة تعليمية؛ مما أدى إلى ضرب التعليم في مقتل وتحولت المدارس إلى مقرات لما يطلق عليه الدروس الخصوصية وافتقدت أية معايير مهنية أو أخلاقية، وكانت نتيجة هذا الأمر عدم اكتساب طلاب هذه المؤسسات للحد الأدنى من القدرات التي تؤهلهم لاقتحام سوق العمل، وبالتالي الانضمام لطابور البطالة الذي تجاوز تعداده 25مليون عربي يحتاجون لضخ استثمارات ضخمة للحد من تفاقم ظاهرة البطالة.
وإذا كانت البطالة تضرب الشباب في معظم البلدان العربية ويعدها المراقبون أصل الداء في كل المشكلات في المنطقة، فإن تداعياتها تعد خطيرة للغاية؛ فقد نتج عنها تفاقم مشكلات عديدة وعلى رأسها عجز معظم الدولة عن توفير ما يطلق عليه الإسكان المتوسط والقادر على تلبية طموحات أغلبية الشباب العربي القادر على بناء أسرة، وبالتالي تفاقمت مشكلة العنوسة لدرجة أن أعداد من يعانون منها تجاوزت 13 مليونا في عديد من الأقطار العربية ولاسيما في مصر والسودان والمغرب واليمن وغيرها.
أبواب موصدة
وإذا كانت مصادر الرزق قد سدت في وجه الشباب العربي في بلدان المنطقة، فإن سعيه للتغلب على هذه المشكلة باللجوء للسفر للخارج قد بات محفوفا بالمخاطر، فآلاف الشباب يواجهون الأمّرين حين يهمون بعبور المتوسط والوصول إلى الشاطئ الأخر له، وقد يدفع العشرات منهم عمره ضحية هذه المغامرة لتحسين أوضاعهم المالية بسلوكه هذه المخاطر المغرية، ولا سيما أن سلوك طريق قانوني للوصول إلى أوروبا أو الحصول على فرصة عمل في إحدى البلدان الثرية أصبح يكلف مبالغ طائلة تنوء بكاهل أي شاب عربي، فتكليف السفر لإيطاليا أو فرنسا حاليا إذا كان متاحا يكلف ما يقرب من 15 ألف يورو أغلبها يدفع عمولات ورشاوى للقائمين على القنصليات الغربية في البلدان.
عواقب وخيمة
وفي الوقت الذي يذوق شبابنا الأمّرين للحصول على فرصة عمل في الداخل أو الخارج، ويدفع العشرات حياتهم ثمنا للوصول للقارة العجوز ومعانقة حلم الثراء، ويواجه ظروفا معقدة وصعبة جدا في بلدان المنطقة، وفي الوقت الذي تحول اكتساب لقمة العيش إلى مهمة بالغة -وحاصرت البطالة والعنوسة والفقر والمرض المنطقة- نرى حكام وحكومات المنطقة يتورطون في ممارسات بذخ وإسراف لا طائل من ورائها. فالعديد من الدول العربية ما زالت متقيدة بدفع حصص وتبرعات لعشرات من المنظمات الدولية والأممية لا تعود على المنطقة بأي فوائد، وما زالت تستقطع من ميزانياتها الكثير لتوجيهها لهذه المنظمات لا لشيء إلا من أجل استكمال ما يطلق عليه «البرستيج السياسي للدولة»، وضمان رفع علمها في المنتديات الدولية، في وقت تفشل الدولة في تدبير الاحتياجات الأساسية لأبنائها ويتركون وحدهم يجنون ثمار السياسات الخاطئة.
شراء الصمت
ولا تتوقف السياسات غير الصحيحة للدول العربية عند هذا الحد، ففي الوقت الذي تترك شبابها بين المطرقة والسندان يواجه الفقر والبطالة والمرض، نجد هذه الدول تنفق مليارات الدولارات سنويا من أجل إنشاء منتجعات ومراكز ترفيه للنخب المترفة بها لا لشيء إلا لشراء صمتهم عن السياسات غير السليمة والجرائم التي ترتكب في حقوق شعوب المنطقة، فمثلا أغلب الدول العربية تخصص ميزانيات مفتوحة لما يطلق عليهم أعضاء البرلمانات العربية والذين يتقاضون بدلات ومكافآت تقدر بمليارات الدولارات من أجل إكمال «الديكور» الديمقراطي كما يزعمون، في وقت يتضور الملايين جوعا ويجدون صعوبات في توفير الحاجيات الأساسية.
وهذه الأوضاع الاقتصادية المعقدة التي تعانيها الشعوب العربية تتصاعد في وقت تمتلك دولهم الكثير من أسباب الرخاء.فأغلب الدول العربية حباها الله بثروات معدنية أهمها النفط والغاز الطبيعي بكميات كبيرة وتكاليف إنتاج أقل وبأسعار شهدت طفرة غير مسبوقة طوال السنوات الماضية لم يحسن استخدامها في وقت كانت توفر حلولا لأغلب مشكلات المنطقة، فضلا عن امتلاكنا أراضي زراعية خصبة وإمكانات مائية كبيرة لو تم توظيفها بشكل جيد لكانت قادرة على نقل الأوضاع في المنطقة نقلة نوعية غير مسبوقة.
ضخ استثمارات
إن أغلب دول المنطقة لم تحسن استخدام ثرواتها المقدرة بأربعة تريلونات دولار، واكتفت باستثمارها في البلدان الغربية؛ مما وضعه في مخاطر جمة في ظل الأزمة المالية العالمية؛ حيث خسر العرب ما يقرب من 30%من هذه الاستثمارات بسبب الأزمة، فضلا عن مطالبة الغرب للدول العربية بالتدخل لإنقاذ اقتصاديات هذه الدول من الأزمة وضخ استثمارات جديدة في اقتصادياتها فتعاطت دولنا مع هذا الطرح تعاطياً جيداً، وأخذت تضخ مليارات جديدة في بناء العمارات وناطحات السحاب والقصور والفيلات، رغم أن هذه المشاريع معرضة لمخاطر جمة وقد تقع ضحية لسيف المصادرة والتجميد
وهناك كارثة أخرى نعانيها في العالم العربي في الفترة الأخيرة تتمثل في ظواهر الفساد المتصاعدة بشدة في المنطقة، عبر إنفاق بعض الدول العربية لملايين الدولارات، ومحاولة شراء الولاء والإنفاق ببذخ إبان فترة الانتخابات البرلمانية من أجل ضمان الهيمنة على السلطة، لدرجة أن دولة مشرقية كبرى قدرت الإنفاق على الانتخابات بما يقترب من 750 مليون دولار للوصول للبرلمان، رغم أن هذا المبلغ يكفي لحل مشكلات محافظات مصرية يتضور أبناؤها جوعا.
صراع النفوذ
ويضمن المشهد أيضا تعرض دول عربية عديدة للإرهاق السياسي والعسكري، مما يعرض أمن هذه الدول واستقرارها للخطر، بل ووحدتها، وهو ما ينطبق على الأوضاع في اليمن وتمرد الحوثيين وتحركات ما يطلق عليه قوى الحراك الجنوبي وعمليات القاعدة، وهو أمر أضر بالحالة الاقتصادية لشعب اليمن وأسهم في تراجع جميع المشاريع التنموية.
وهناك الصراع المشتعل في دارفور والاقتتال المستمر بين أصدقاء الأمس وأعداء اليوم في الصومال والصراعات المسلحة في تشاد؛ حيث يجري ضخ مئات الملايين من الدولارات سنويا من أجل استمرار هذه النزاعات، وكان من الأولى إنفاقها على حل مشكلات هذه البلدان وإنقاذها من التصحر والجفاف والفقر والجهل والمرض.
وجدير بنا بعد هذا الاستعراض أن نشير إلى أن ضخ آلاف المليارات كاستثمارات في البلدان الغربية وحرمان دول المنطقة من هذه المليارات ومن آثار نهضة كبيرة متوقعة في حالة توظيف 25% فقط من هذه المليارات، وكذلك تغول الفساد في منطقتنا بأشكاله المختلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وإهدار ملايين الدولارات على النخب المترفة والسياسية كل ذلك يشكل العامل الأهم في الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها المنطقة.
عودة ضرورية
ويدعم هذا الطرح الدكتور حمدي عبد العظيم العميد السابق لأكاديمية السادات للعلوم الإدارية؛ حيث يشدد على أهمية عودة الأموال العربية المهاجرة للمنطقة ولاسيما أن وجودها في الخارج؛ بالخارج يعرضها للضياع في ظل الحاجة الشديدة لها في دول المنطقة، حيث تعد الحل الأمثل لتراجع مسيرة التنمية وانتشار الفقر والجهل والمرض، لافتا إلى أهمية تبني الدول العربية لإصلاحات اقتصادية تعيد هذه الأموال وتشكل بيئة حاضنة ومغرية للاستثمار ومشجعة على عودة هذه الأموال، وضرورة إبعاد المشكلات السياسية عن الصعيد الاقتصادي، وتقديم ضمانات لهذه الأموال للعودة وإبعادها عن سيف المصادرة والتجميد.
ويلفت عبد العظيم لأهمية التصدي بقوة للفساد والنهب المنظم لأموال وثروات العالم العربي ووضعها في البنوك الغربية، ووقف الإنفاق ببذخ على النخب الحاكمة وتسخير مؤسسات الدولة للتخديم على مصالحهم مهم جدا إذا أردنا التصدي لمشكلات الفقر والبطالة والعنوسة التي نعانيها.
ضمانات شديدة
فيما أرجع الخبير المصرفي د.محسن الخضيري سعي الدول العربية ورجال الأعمال والسياسيين لوضع أموالهم في سويسرا للطبيعة الخاصة للبنوك السويسرية، والضمانات الشديدة المقدمة لهذه الأموال، ونظام الحسابات السرية شديد التعقيد الذي تعمل البنوك السويسرية في إطاره، وهو ما يغري الكثيرين بإيداع أموالهم بهذه البنوك.
وأكد الخضيري أن بقاء النسبة الكبرى من الاستثمارات العربية في بنوك الغرب، وعدم عودة نسبة معقولة يعرض هذه المدخرات لكارثة حرمان المنطقة من الاستفادة من هذه المليارات لتطوير بنيتها الأساسية والاستفادة من ثرواتها الضخمة الموجودة في أراضيها؛ لعدم وجود القدرات والإمكانيات المالية والفنية لاستخراجها، وكذلك الاستفادة من الثروات المتعددة تعدينية وزراعية ومائية.
ولفت الخبير المصرفي إلى مسؤولية الفساد عن الأوضاع السيئة التي نعانيها فالتصدي لهذا الغول وحده كفيل بحل جميع مشكلاتنا.
لاتوجد تعليقات