وحدة الأمة برؤية سلفية
دأب كثير من خصوم السلفية على اتهامها ببث الفرقة والشقاق بين أبناء الأمة الواحدة ، رغم أن من الأصول التي يُلح عليها السلفيون، الدعوة للوحدة والاجتماع ونبذ الفرقة والاختلاف، قال تعالىك {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، ولا يكاد يخلو مصنف من مصنفات اعتقاد أهل السنة التي يعتنون بدراستها من التذكير بهذا الأصل ، يقول الطحاوي ( ت : 321هـ ) في عقيدته المشهورة: «ونرى الجماعةَ حقًا وصوابًا ، والفرقةَ زيغًا وعذابًا»(متن الطحاوية بتعليق الألباني، ص: 85).
ومن سمات الدعوة السلفية البارزة، محاربة العصبيات الجاهلية التي تفرق الأمة، وكل مطلع على جهود أئمة الدعوة وفتاويهم ومناصحاتهم لقادة الدول والحركات والأحزاب الإسلامية، يرى بجلاء حرصهم على جمع الكلمة ووحدة الصف، وفي تقديرينا، فإن منشأ هذا الاتهام المتكرر، من أطيافٍ متنوعة المشارب، أمران:
الولاء والبراء
- الأول: تركيز السلفيين على قضية الولاء والبراء باعتباره مقتضى كلمة التوحيد، وكثيرًا ما هوجم الخطاب السلفي من التيارات الليبرالية بحجة أنه يهدد روح (التعايش السلمي) بين أبناء المجتمع .
قضايا الاعتقاد عموما
- الثاني: اهتمام السلفيين بقضايا الاعتقاد عموما، والتحذير من الفرق المخالفة في أصول الدين، والتحذير من البدع والمحدثات عمومًا، وهذا الخطاب لا يروق لأصحاب هذه الفرق، الذين يستخدمون شعارات الوحدة الإسلامية مطيةً لجذب عموم المسلمين لهم -ومع الأسف- تقع بعض الجماعات والرموز (الإسلامية) في شراك هذه الدعاوى، وظنوا أن وحدة المسلمين إنما تتحقق بتذويب، أو تمييع قضايا الافتراق بين أهل السنة وأهل البدع، أو اعتبارها خلافات هامشية، يمكن التغاضي عنها.
ولكي نبين سبيل تحقيق الوحدة الإسلامية، لابد قبل ذلك من توضيح المقصود- باختصار- بهذين المصطلحين (الأمة ، الوحدة أو الاجتماع).
مفهوم الأمة في الكتاب والسنة
يقصد بالأمة في نصوص الكتاب والسنة معنى يتجاوز التعريفات السياسية الحديثة كلها لمفهوم الأمة؛ فهي جماعة المؤمنين من لدن آدم إلى قيام الساعة، بغض النظر عن العرق ، أو اللون، أو اللغة، قال الله -تعالى-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(الأنبياء: 92).
قال البغوي في تفسيره: إن هذه أمتكم، أي: ملتكم ودينكم. أمةً واحدة، أي : دينا واحدا وهو الإسلام، فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان، وأصل الأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد؛ فجعلت الشريعة أمة واحدة؛ لاجتماع أهلها على مقصد واحد» (تفسير البغوي ، 3/316).
وقال الأمين الشنقيطي في تفسيره: «ومن هدي القرآن للتي هي أقوم هديه إلى أن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع، وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام؛ لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (أضواء البيان 3/42).
الرابطة الجامعة
وهذه الرابطة الجامعة لا تتنافى مع وجود الروابط الأخرى، شريطة أن تكون معززةً لهذه الرابطة، لا ناقضةً لها، وفرق بين أن ينظر للانتماء للوطن، أو القومية باعتباره بديلا عن رابطة الإسلام، وهذه هي العصبية الجاهلية التي حاربها الإسلام، وأن ينظر لها باعتبارها جزءا من كل، كما كانت روابط المهاجرين والأنصار، بل الأوس والخزرج روابط موجودة، وكانت تعقد لها الألوية في الحروب، ولم يحاربها الإسلام إنما حارب التعصب الجاهلي؛ ففي حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة؛ فكسع رجل من المهاجرين، رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا لَلأنصار، وقال المهاجري: يا لَلمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما بال دعوى الجاهلية»؟ قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين، رجلا من الأنصار، فقال: «دعوها، فإنها منتنة»(رواه البخاري 4905، ومسلم 2584)؛ فذمّ صلى الله عليه وسلم رجوعهم لمبدأ الجاهلية في نصرة أخيهم بالحق أو بالباطل، ولم يحرم الانتساب للمهاجرين أو الأنصار .
ففي المنظور السلفي لا حرج ولا تناقض بين كون الإنسان منتسبا لدينه ولقومه ولوطنه؛ فهي روابط متداخلة متعاضدة، ما لم يتحول ذلك لعصبية الجاهلية التي تعقد الولاء والبراء على غير الحق والكتاب والسنة.
مفهوم الاجتماع والوحدة
فيفهمه السلفيون في ضوء الآيات والأحاديث الآمرة بلزوم الجماعة، والنهي عن الفرقة والاختلاف، قال الله -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران :103).
فبيّن -سبحانه- أن الاجتماع في التمسك بمنهج الله ودينه، وحذر من سبيل المشركين في الافتراق فقال -تعالى-: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}( آل عمران: 105)؛ فالافتراق المذموم هو الناشئ عن ترك الحق الذي قامت البينات القاطعة على صحته؛ ففي الآيتين بيان سبيل الاجتماع والافتراق بأوجز وأوضح عبارة.
أحاديث لزوم الجماعة
منها عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم: أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا»(رواه مسلم 1715)، قال النووي -رحمه الله-: قوله صلى الله عليه وسلم : «ولا تفرقوا»؛ فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين وتألف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام (شرح مسلم ج 12، ص 11).
وقد ذكر الشاطبي أقوال أهل العلم في تفسير الجماعة على خمسة أقوال (انظر : الاعتصام ص 216:209)، ومحصل كلامهم يرجع لمعنيين:
- الأول: الجماعة بالمعنى الاعتقادي العلمي، والثاني: الجماعة بالمعنى العملي؛ فلزوم الجماعة بالمعنى العلمي يعني لزوم الإسلام بالفهم الصحيح الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، وهذه حقيقة المنهج السلفي، كما جاء في وصف الفرقة الناجية: «ما أنا عليه وأصحابي»(رواه الترمذي2641، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 5343).
والخروج عن الجماعة بهذا المعنى، يعني مفارقة منهج الصحابة والسلف الصالح، إلى الأهواء والاختلافات التي يتحمل أصحابها وزرَ هذه الفرقة، وليس أهل السنة المتمسكين بالأمر الأول.
علاج الفرقة
وعلاج هذه الفرقة إنما يكون بعلاج سببها وهو التحذير من الفرق النارية التي حذّر منها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونشرُ السنة وتعليمها للناس، حتى يكثر أنصارها ويقل أنصار البدعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (رواه أحمد (17145) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2549)؛ فهذه القاعدة النبوية عند الاختلاف، تحض على التمسك بالسنة ونبذ البدعة وأهلها .
ولزوم الجماعة بالمعنى الثاني: يعنى الحرص على جمع كلمة المسلمين، وعدم تفريق كلمتهم، بإثارة الفتنة، وحمل السلاح على الأمة ، والخروج على ولي أمر المسلمين الثابت ولايته، والتحذير من ذلك كثير في الاحاديث، دأب المصنفون في مسائل الاعتقاد على ذكره ضمن معالم منهج أهل السنة والجماعة .
التصور المثالي
ورغم أن التصور المثالي الواجب شرعا، يتمثل في اجتماع المسلمين كلهم تحت إمام واحد ؛ إلا أن هذه الصورة قد تعذر وجودها من أزمنة بعيدة، ولاسيما مع اتساع رقعة المسلمين، وتعامل فقهاء المسلمين مع هذا الأمر الواقع بما يحقق مقاصد الشرع؛ فألزموا حكام الولايات المختلفة بإقامة مقاصد الولاية الشرعية في نطاق سلطانهم، وعدوا ولايتهم شرعية نافذة، رغم كونها خلاف الأمثل، بل الواجب عند التمكن. (انظر: الغياثي، للجويني 175، وراجع في هذا المبحث كتاب الإمامة العظمى ، للدميجي ، ص 551).
مفهوم خطأ
فليس صحيحا أن الخطاب السلفي لا يعترف بالأوطان مطلقا، ولكنهم -كما سبق- لا يجعلون هذه الرابطة بديلا عن الرابطة الإيمانية، ولكنهم يجعلونها داخلة فيها ومعضدة له، يقول سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- في إحدى فتاوي: ولاشك أن الدفاع عن الدين والنفس والأهل والمال والبلاد وأهلها، من الجهاد المشروع، ومن يقتل في ذلك وهو مسلم يعد شهيداً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد» -منشورة على موقعه الرسمي تحت عنوان: (دفاع المسلمين عن بلادهم من الجهاد)، وينبه الشيخ ابن عثيمين في مواطن مختلفة (انظر مثلا: شرح رياض الصالحين 1/33)،لأهمية ضبط النية في ذلك بأن تكون النية الدفاع عن الوطن؛ لأنه إسلامي .
الخطاب السلفي
والخطاب السلفي يفرق بوضوح جدا بين موالاة الكفار التي تتضمن الرضا بعقائدهم، ونصرتهم على باطلهم ، وطاعتهم في الكفر، ومحبتهم على دينهم وغيرها من أنواع الموالاة، وما يدخل في أنواع المعاملات الجائزة بين المسلمين والكفار في البلد الواحد؛ مما يحقق صورة التعايش السلمي في المجتمع الواحد.
والتفريق بين الأمرين -وهو مما يكثر التنبيه عليه في الأدبيات السلفية قديما وحديثا- هو العلاج الصحيح المبني على الكتاب والسنة، وليس كما يتوهم بعضهم أن علاج التطرف يكون بتذويب عقيدة الولاء والبراء، بل هذا مما يزيد الطين بلة.
والغرض المقصود: أن السلفيين -بفضل الله- هم أسعد الناس بالدعوة للزوم الجماعة بمعنييها؛ فهم أكثر الناس دعوة للسنة والعقيدة الصحيحة، والتحذير من الفرق المنحرفة التي فرقت الأمة فرقًا شتى. وهم أكثر الناس تنبيها على لزوم الجماعة ، والتحذير من حمل السلاح على المسلمين، وشق عصا الطاعة، وموازنة المصالح والمفاسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والتاريخ يشهد بالتلازم الطردي بين انتشار عقيدة السلف ووحدة المسلمين واجتماع كلمتهم، وفي المقابل انتشار العقائد المنحرفة وتسلط أهلها وتفرق كلمة الأمة وتسلط عدوها عليها، بل والواقع المعاصر يشهد بذلك أيضا؛ فمع انتشار المناهج المنحرفة عن منهج السلف، تكثر الفتن والاضطرابات في بلاد المسلمين، أصلح الله أحوالها، وجنبها الفتن ما ظهر منها وما بطن .
لاتوجد تعليقات