رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: القاهرة - الفرقان: أحمد عبد الرحمن 18 مايو، 2015 0 تعليق

واقع المجتمع المصري فـي ظـل التقلبـات السياسية الأخيرة- في خضم الحياة.. المصريون ينخرطون في صراعات سياسية عبثية كل بلغته وأدواته

(أهل مصر شعب متدين مسالم) مثلت هذه العبارة السابقة مفتاحًا لفهم الكثير من المواقف الاجتماعية والسياسية لعموم الشعب المصري عبر التاريخ سواء في علاقته بزواره من غير المصريين أم  في علاقته بحكامه عبر السنين الذين كانوا في الأغلب من الأجانب الوافدين أم في علاقته البينية الداخلية بين مكوناته المتعددة، التي كونت مزيجًا عجيبًا من الأجناس والأعراق، بل والأديان في بعض الأحيان.

نهر التميز

     لعل ما يفسر هذا التكوين المميز هو أن الزراعة كانت هي الحرفة الأساسية لأغلب المصريين تاريخيًا، وعليها قامت العديد من الدول التي نشأت في أحضان نهر النيل بطول البلاد؛ مما أثر على طبيعة سكان البلاد؛ حيث أصبحوا يميلون إلى الهدوء والسكينة وعدم التقلب الذي يصل أحياناً إلى حد الرتابة، تمامًا كالنهر الهادئ الذي يجري في انتظام وتعرف بدايته وطريقه ومصبه، لا ثورات أو انتفاضات إلا فيما ندر، حتى الفيضان الموسمي للنهر الذي كان الحدث الأكثر زخماً في البلاد؛ تعود المصريون على التعامل معه عبر السنين، بل وأنشؤوا سدودًا تكبح جماح النهر الثائر ليصبح هادئًا مسالمًا مأمون الجانب.

     وما حدث مع النهر الكبير حدث مع عدد ليس بالكثير من الانتفاضات والهبًّات التاريخية الطارئة التي تعد استثناء في حياة المصريين لتعود بعدها طبيعة الحياة إلى الاستقرار الذي يميل إليه أغلب الشعب، وإلى صيغ التعايش المشترك التي تشعر معها وكأن الجميع راض بحاله ولا يطمع في المزيد، للدرجة التي جعلت الكثير من المحللين الاجتماعيين يفسر ذلك بالحالة الدينية المسيطرة على المصريين حتى في الفترات التي غرقوا فيها في الوثنية الفرعونية؛ حيث كانت فكرة القصاص في اليوم الآخر واستيفاء الحساب في الدار الآخرة هي الفكرة التي تقوم عليها هذه الديانات، إلى أن شرح الله صدور أهل مصر بالإسلام؛ فكان الرضا بالقدر وتفويض الأمر لله بالاحتساب في المظالم جانباً مشرقاً في الطبيعة المصرية ذاتها، لكنه مع غياب الجوانب الشرعية الأخرى من إقامة العدل ورد المظالم قد يمثل نوعاً من الاتكال المذموم.

أحداث 25 يناير

     ولعل في أحداث ٢٥ يناير ٢٠١١ ما يؤكد ذلك؛ فالثورات غالبًا؛ تأتي مصحوبة بالكثير من روائح الدم ورياح الانتقام التي تطال كل من له أدنى تلبس بما ثارت ضده الشعوب، بل ربما تطال الكثير من الأبرياء في شدة الهياج الثوري حينما يكون الصوت المتعقل أو الداعي إلى الرحمة صوتًا خائنًا للثورة يجب الخلاص منه؛ حيث مرت هذه الأحداث دون وقوع أعمال عنف حتى تنحى الرئيس السابق حسني مبارك.

الوجه الآخر للثورة

     الصورة السابقة لها وجه آخر يجب الوقوف عليه إذا أردنا التحليل الموضوعي للعلاقة بين مكونات الشعب المصري، ولاسيما بعد التقلبات السياسية الأخيرة؛ فالمتابع المدقق يلاحظ وبلا شك أن درجة العنف المحدودة المعتادة التي لا يخلو منها مجتمع ولم يخل منها المجتمع المصري بطبيعة الحال؛ قد زادت عن معدلاتها النسبية بطريقة ملحوظة، ولاسيما بعد ثورة ٢٥ يناير وما عرف بالانفلات الأمني الذي تعامل معه المصريون وقتها بفطرية بتكوين لجان حماية شعبية تلقائية بطول البلاد وعرضها، إلا أنه وبرغم نجاحها في الأغلب الأعم في السيطرة على حوادث العنف الفردية؛ فإنها لم تستطع التعامل الكافي مع حالات العنف الممنهجة أو المنظمة التي تمثلت في الظهور السريع والخاطف لعصابات السرقة والسطو المسلح على الأسواق والمحال التجارية والطرق السريعة، ولاسيما في فترات المساء، وهي الظاهرة التي لم تدم طويلا، ولكنها أثرت بلا شك على جدار الأمن النفسي العام الذي يحيط بالبلاد، وبالتالي أثرت على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية وكونت ظلالاً مخيفة، ولاسيما عند المصريين المقيمين بالخارج الذين اعتادوا العودة الدورية لبلادهم لقضاء الإجازات، فإذا بالكثير يحجم عن ذلك ويكتفي بالبقاء آمنًا خارج دائرة العنف، الذي ساعد البعض في التضخيم من حجمها ليظل السؤال الأكثر تردادًا في هذه الفترة «ما أخبار العنف في الشارع المصري؟».

التحريض على العنف

     والمتابع أيضًا يلاحظ أن هناك من كان ينفخ في نار العنف، ويحرض على الدماء في اتجاهات مختلفة، بما في ذلك الدعوة إلى إقامة محاكم ثورية شعبية وتنفيذ إعدامات فورية في الميادين دون محاكمات لكل من تعاون مع النظام السياسي السابق، وهذه الدعوات وإن لم تلق الاستجابة المطلوبة نظرًا لشذوذها، إلا أنه يمكن عدها بمثابة بذرة خبيثة تمت تنميتها مع الوقت مع تكرار حوادث العنف الفردي نتيجة الخلافات المعتادة بين المواطنين، أو حوادث العنف السياسي الممول التي تم توجيهها إلى الأحزاب السياسية الإسلامية مرات عدة، أو حتى إلى النظام والحكومة نفسها، وأيضًا ما كانت ترد به القوات النظامية سواءً في التعامل مع المظاهرات وأحداث العنف، أم ما حدث من عنف واستخدام بالغ للقوة في فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة بعد التغيرات السياسية التي حدثت في ٣٠ يونيو ٢٠١٣؛ حيث مثلت طريقة فض الاعتصامين فتحًا لشلال دماء لم يتوقف حتى وقت كتابة هذه السطور من عمليات انتقام وعنف مضاد.

عودة تيارات التكفير والعنف

     وقد كونت عملية فض الاعتصام ذريعة أساسية عند تيارات التكفير والعنف للدخول على الخط والعودة إلى المشهد العام المصري بعد اختفائها منذ قرابة عقدين في تزامن مع تنامي سطوة التكفيريين في العراق ثم سوريا نتيجة الاحتلال الأمريكي للعراق وما تبعه من تنامي المد الصفوي فيها، ثم ما حدث من ثورة في سوريا تصدر مشهد الجهاد فيها للأسف جماعات منسوبة إلى الفكر التكفيري؛ مما أدى إلى تنامي هذا الفكر في سيناء المصرية بعد أن كان محصورًا فيها في حدود ضيقة، وبعد أن كانت سهام التكفير موجهة إلى عموم النظام ومن عاونه، امتدت كذلك إلى السلفيين والإخوان ممن ارتضى العمل السياسي في مصر بعد ثورة ٢٥ يناير، وفي مفارقة عجيبة يصطف الفكر التكفيري مع المعارضين لأحداث ٣٠ يونيو في براجماتية واضحة من أصحاب هذا الفكر الذي كان يكفر الإخوان والدكتور مرسي الرئيس المصري المعزول بالأمس فإذا به يتخذ مسألة عودة الشرعية والإطاحة بحكم الإخوان ستارًا للانتقام من النظام.

     المثير للدهشة أن العمليات الانتقامية ضد النظام وجدت مؤازرة من عمليات انتقامية أخرى تمت بطول البلاد وعرضها في صورة تفجيرات عشوائية طالت الكثيرين من أبناء الشعب المصري هذه المرة وليس فقط المنتمين للنظام، وهذه العمليات وجدت من يشرعنها، ويسوق لها عند قاعدة شعبية لا يستهان بها، حتى إن كثيرًا ممن يرفضها ظاهريًا بدا وكأنه يرضى عنها، ويظهر الفرح بها على سبيل النكاية في النظام وفيمن سكت ضد ممارساته ضد الإخوان.

حرب المصطلحات

     الممارسات الأخيرة المشار إليها نقلت الاحتداد الاجتماعي الداخلي إلى درجة غير مسبوقة جعلت الجميع يتوقع أن البلاد على شفا احتراب داخلي وأن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من إشعال إعلامي مخابراتي لفتيل الحرب الأهلية الانتقامية بين أنصار الإخوان وما أطلق عليهم في الإعلام المصري (المواطنين الشرفاء) الذين ظهروا مرات عدة يتصدون بعنف بالغ للمظاهرات التي كانت تتم تحت شعار الدعوة إلى عودة الشرعية.

     حرب المصطلحات والمسميات كانت أيضًا علامة بارزة للجدل الاجتماعي العنيف داخل المجتمع المصري منذ أن صك الثوريون والإخوان مصطلحات مثل: (الفلول)، و(حزب الكنبة)، و(أبناء مبارك)، على سبيل الحرب النفسية والاجتماعية والسياسية ضد الخصوم السياسيين، بل وامتد الأمر لوصم عمليات صياغة الدستور والموافقين له بدستور الراقصات وأبناء الراقصات في صورة مبتذلة من صور المكايدة السياسية التي أتت ردًا على ابتذال في الجانب الآخر بتسمية الدستور الذي تمت صياغته في عهد الإخوان بدستور الإخوان أو دستور أم أيمن أو وصف جميع الموافقين لحكم الإخوان بالخرفان.

     حرب المصطلحات هذه كانت نوعًا من الاستسهال والمزايدة غير الموضوعية ساهمت فيها كثيراً الأدوات الإعلامية المملوكة للدولة أو الموافقة لها، وكذلك الأدوات الإعلامية المعارضة مثل القنوات الفضائية التي انتقلت للبث من خارج مصر، وبطبيعة الحال لم تغب شبكات التواصل الاجتماعي عن المشهد؛ حيث كانت الوسيلة الأكثر والأسرع انتشاراً وتأثيراً وسط الشباب.

عنف لفظي

وهذا العنف اللفظي البالغ كون أرضية خصبة لخروج دعوات الاستئصال والإقصاء السياسي من جهة، والدعوة إلى الاغتيال المادي والاقتصادي، بل والتصفية الجسدية من جانب آخر، لتظهر وللمرة الأولى أصوات تنادي بسحق المعارضين ولو بضربهم بالطيران.

مفردات جديدة

     الخلاصة أنه قد دخلت مفردات جديدة إلى طبيعة العلاقة السياسية بين المصريين الذين يجرم قانونهم حمل السلاح إلا بترخيص في حالات استثنائية محدودة؛ فآل الأمر إلى إدارة الخلاف بعنف من نوع آخر لا يخلو من التحريض على امتلاك السلاح ولو بطريقة غير قانونية واستخدامه في إحداث نكاية في الخصم السياسي استناداً إلى دعامات فكرية متقابلة كل منها يدعي كونه رد فعل وليس فعلاً مبدئياً.

الطابع الديني للصراع السياسي

     وبرغم الطابع الديني الذي سيطر على كثير من حلقات الصراع السياسي في مصر في الحقبة الأخيرة، إلا أنه وللأسف لم تخل الحالة السياسية من العنف اللفظي المتبادل الذي يصل إلى حد الابتذال، وهو الأمر الذي رفع بسقف المحاذير الاجتماعية إلى درجة غير مسبوقة؛ فلم يعد الاعتداء اللفظي الفاحش والوقوع في الأعراض مقصوراً على فئة المنحرفين، بل وامتد أيضاً ليكون أسلوباً معتاداً من بعض المنتسبين للتدين وخصومهم بطبيعة الحال ليطال الجميع من نار هذا الفحش ليس فقط السياسيين، بل والدعاة والعلماء على اختلاف مواقعهم الفكرية أو مواقفهم السياسية.

حالة ملتهبة

     أثرت هذه الحالة الملتهبة على البيت المصري البسيط في الغالب، الذي ربما وصفه البعض في صورة من صور المجازفة بحزب الكنبة، فتحولت العلاقة بين الأهل والجيران والأصدقاء إلى صورة أخرى من صور صراع الديكة السياسي، الكل يصرخ في وجه الكل، ويكيل له السباب والاتهامات بالخيانة، إما خيانة الدين أو خيانة الوطن، الكل يمسك بالزناد متأهبًا لإطلاق رصاصة إنهاء العلاقة المتينة مع إخوانه قاطعًا رحمه في صخب هذه المعركة التي تدور بعيدًا عن فعله الحقيقي، وإنما يكتفي فقط بمتابعتها من مواقع المتفرجين، وهذه الحالة لم يستثن منها أحد إلا من رحم الله، سواء رجل الشارع البسيط أو الإنسان المثقف المتعلم، كبار السن أو الشباب، الكل منخرط في هذا الصراع العبثي، كل بلغته وأدواته.

دعوات للمقاطعة الاجتماعية

     ظهرت بعض دعوات المقاطعة الاجتماعية والتجارية من باب المعاقبة السياسية الموجهة من أفراد المجتمع تجاه المخالفين لهم، إلا أن هذه الدعوات برغم تتابعها في فترة قصيرة، وبرغم ما أحيط بها من زخم إلا أنه لم تلق سوى الفشل، ليعود نهر الحياة لهدوئه مرة أخرى، فتخفت أصوات الجماهير الثائرة، وينتظم الجميع في طوابير الذهاب والإياب من مواقع العمل، نعم بقيت حزازات في النفوس، ولكن من قال: إن عجلة الحياة توقفت في مصر من قبل عند أمور كهذه؟

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك