هيبة المسلم عند الناس وعند أسرته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد: فإن المسلم الحقيقي هو الذي ألقى الله تعالى عليه المهابة والحب معا، فترى الناس بقدر ما يحبونه يهابونه، وهذا القدر بين المحبة والمهابة لو توفر عند الأب والأم بين أولادهما؛ فإن تربية هؤلاء النشء ستكون على أعلى مستوى، وقد كان نبينا [ أعظم الناس في ذلك، فكان أصحابه وأهله يحبونه حبا شديدا وهو مع هذا مُهاب لديهم.
وفي حديث عبيد بن عمير الموقوف قال: «الإيمان هَيُوبٌ» (حلية الأولياء 3/172) أي يُهاب أهله، فعول بمعنى مفعول، فالناس يهابون أهل الإيمان؛ لأنهم يهابون الله تعالى ويخافونه.
هيبة رسول الله [
عن زينب الثقفية زوج ابن مسعود - رضي الله عنه - قالت: «... وكان رسول الله[ قد ألقيت عليه المهابة» (مسلم 1000)، أي أعطى الله رسوله هيبة وعظمة يهابه الناس ويعظمونه، ولذا ما كان أحد يجترئ على الدخول عليه.
قال الطيبي: كان تدل على الاستمرار، ومن ثم كان أصحابه في مجلسه كأن على رؤوسهم الطير، وذلك عزة منه[ لا كبرا وسوء خلق، وإن تلك العزة ألبسها الله تعالى إياه لا من تلقاء نفسه.
أي إنه [ مُهاب موقر مع ما كان عليه من عظيم حُسن الخلق وبديع التواضع، حتى كان أصحابه في مجلسه يعتريهم من ذلك ما يصيرون به خاضعين خافضين رؤوسهم، كأن على رؤوسهم الطير.
قالت عائشة - رضي الله عنها: كنت ألعب بالبنات عند رسول الله [ في بيته - وهن اللعب - وكان لي صواحب يلعبن معي، وكان رسول الله [ إذا دخل ينقمعن (أي يستخفين هيبة منه، فيسربهن إليّ فيلعبن معي). (البخاري 5779).
وعن أبي هريرة ] قال: قال رسول الله [: «سلوني» فهابوه أن يسألوه. (متفق عليه).
وعن موسى وعيسى ابني طلحة بن عبيد الله عن أبيهما طلحة أن أصحاب رسول الله [ قالوا لأعرابي: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته، ويوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي، فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خُضر، فلما رآني رسول الله [ قال: أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: هذا ممن قضى نحبه، يعني طلحة. (الترمذي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
«طلحة ممن قضى نحبه» النحب: النذر، كأنه ألزم نفسه أن يَصْدُق أعداء الله في الحرب فوفى به، وقيل: النحب: الموت كأنه يُلزم نفسه أن يقاتل حتى الموت. (النهاية في غريب الأثر).فالقوة في الدين مما يورث المهابة.
إلى أي حد بلغت مهابتهم رسول الله [؟
يقول عمرو بن العاص ]: فما كان أحد أحب إلي من رسول الله [ ولا أعظم في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه؛ إعظاما له، ولو سُئلت أن أنعته؛ ما أطقته، لأني لم أكن أنظر إليه؛ إعظاما له. (مسلم 121).
وعن أبي مسعود ] قال: أتى النبي [ رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له: هون عليك؛ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد. (ابن ماجة 3312 وصححه الألباني).
هيبة عمر ]
عن بريدة ] قال: خرج رسول الله [ في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول الله، إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، فقال لها رسول الله [: إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا، فجعلت تضرب، فدخل أبوبكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر، فألقت الدف تحت استها ثم قعدت عليه، فقال رسول الله [: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر. (أخرجه أحمد والترمذي وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم. انظر: إرواء الغليل (8/318).
ما يسقط المهابة
وكما يلقي الله تعالى المهابة على أهل الصلاح والديانة؛ فإنه ينزعها عن أهل السوء والخيانة، عن عثمان بن عفان ]: قال: لو أن رجلا دخل بيتا في جوف بيت؛ فأدمن هناك عملا أوشك الناس أن يتحدثوا به، وما من عامل عمل عملا إلا كساه الله رداء عمله، إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر. (رواه مسدد، ورواته ثقات، وانظر كنز العمال 8426).
من أسباب سقوط المهابة عن الإنسان
كثرة المزاح:
الأولى ترك المزاح؛ لأنه يُظلم القلب ويسقط المهابة، ويورث الضغائن؛ لكن لا بأس به نادرا، ولاسيما مع المرأة والطفل تطييبا لقلبيهما. (التيسير بشرح الجامع الصغير المناوي 1/743).
أقوال عابرة في المزاح
قال عمر بن عبدالعزيز: «اتقوا المزاح؛ فإنه حمقة تولد ضغينة».
وقال: «إن المزاح سبابٌ إلا أن صاحبه يضحك».
وقيل: «إنما سُمي مزاحا؛ لأنه مزيح عن الحق».
وقيل في ميسور الحكم: المزاح يأكل الهيبة كما تأكل النار الحطب.
وقال بعض الحكماء: من كثر مزاحه زالت هيبته، ومن كثر خلافه طابت غيبته.
وقال بعض البلغاء: من قل عقله كثر هزله.
وذكر خالد بن صفوان المزاح - وهو من الخطباء المشهورين - فقال: يصك أحدكم صاحبه بأشد من الجندل، وينشقه أحرق من الخردل، ويفرغ عليه أحر من المرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحه بعد كل هذا الإيذاء، يقول: إنما كنت أمزح معك.
وقال بعض الحكماء: خير المزاح لا يُنال، وشره لا يُقال.
وقد يقال: كثرة المزاح من الفتى تدعو إلى التلاح، إن المزاح بدؤه حلاوة؛ لكنما آخره عداوة، يحقد منه الرجل الشريف ويجترئ بسخفه السخيف، لا تمازح الشريف يحقد، ولا الدنيء يجترئ ويفسد.
وقال بعضهم: ربما يستفتح المزح مغاليق الحمم، أي: الموت.
وقال بعضهم لولده: اقتصد في مزحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ السفهاء، وإن التقصير فيه يغض عنك المؤانسين، ويوحش منك المصاحبين - يجعل بينك وبينهم وحشة.
مثلا: لو حصل ملل في مجلس العلم، كأن يطول المجلس، فحصل فيه نوع من السآمة، فأورد أحد الحاضرين طرفة قصد بهذه المزحة إزالة السآمة، فهذا أمر محمود، وإما أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه من سأم، أو حدث به من هم أو غم، فقد قيل: لا بد للمصدور أن ينفس، أي: الذي بصدره شيء لا بد له من تنفيس، ولكن إذا أعطيت المزح؛ فليكن بمقدار ما تعطي الطعام من الملح.
إذاً: فليكن المزاح في الكلام مثل الملح في الطعام، وإذا لم يوجد بالمرة كان الكلام فيه شيء من السآمة، وإذا كثر أفسد، مثلما أن الملح إذا كثر في الطعام أفسده وما عاد مستساغا، إما أن يكون غير مستساغ أو ممجوج. (أدب الدنيا والدين للماوردي).
لون من المزاح الخفيف
عن زياد الإفريقي قال: غزونا البحر مع معاوية فانضم مركبنا إلى مركب فيه أبوأيوب الأنصاري، فلما حضر غداؤنا أرسلنا إليه فأتانا، فقال: دعوتموني وأنا صائم، وإني سمعت رسول الله [ يقول: إذا دُعي أحدكم فليجب وإن كان صائما، وكان معنا رجل مزاح، فكان يقول لصاحب طعامنا: يا فلان جزاك الله خيرا وبرا، فلما أكثر عليه جعل يغضب ويشتم، فقال المزاح: ما تقول يا أبا أيوب إذا أنا قلت لرجل جزاك الله خيرا وبرا شتمني، فقال أبوأيوب ]: اقلب له، ثم قال أبوأيوب: كنا نقول من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، فقال المزاح للرجل: جزاك الله شرا وعرا، فضحك ورضي، فقال: لا تدع بطالتك على كل حال، فقال المزاح: جزاك الله أبا أيوب خيرا وبرا قد قال لي.
وفي رواية: فجاء أبوأيوب فقال: دعوتموني وأنا صائم، وكان عليّ من الحق أن أجيبكم، وإني سمعت رسول الله [ يقول: حق المسلم على المسلم ست خصال واجبة، فمن ترك خصلة منها فقد ترك حقا واجبا لأخيه عليه: أن يجيبه إذا دعاه، وأن يسلم عليه إذا لقيه، وأن يشمته إذا عطس، وأن ينصحه إذا استنصحه، وأن يعوده إذا مرض، وأن يتبع جنازته إذا مات. قال الشافعي: والمزاح لا ترد به الشهادة ما لم يخرج في المزاح إلى عضه النسب، أو عضه لحد، أو فاحشة، والعضه الكذب والبهتان. (السنن الصغرى للبيهقي).
وقد قالوا: ثلاثة من الجفاء: أن يؤاخي الرجل الرجل فلا يعرف له اسما ولا كنية، وأن يهيئ الرجل لأخيه طعاما فلا يجيبه، وأن يكون بين الرجل وأهله وقاع من غير أن يرسل رسولا. أي المزاح والقبل لا يقع أحدكم على أهله مثل البهيمة على البهيمة (الجامع الكبير للسيوطي).
2- حب الدنيا والركون إليها:
ومما يُذهب الهيبة أيضا ويطمع الأعداء ويجرئ السفهاء حب الدنيا: عن ثوبان ] قال: قال رسول الله [: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها». فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن؟ فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت. (أبوداود 4299 وصححه الألباني).
المهابة لا تمنعك من قول الحق
عن أبي سعيد الخدري ] قال: قال رسول الله [: «لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه (أو شهده أو سمعه)، فبكى أبوسعيد، وقال: قد - والله - رأينا أشياء فهبنا». (أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1/271).
ورب البيت في بيته، وربة البيت كذلك ينبغي أن يعودا الولد على أن يهابهما ويحبهما، فلا تكون الهيبة سوطا يلهب ظهور الأولاد، ولا تكون المحبة سبيلا يوصلهم إلى العصيان والعناد، والتوسط بين الأمرين محمود، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والله من وراء القصد.
لاتوجد تعليقات