رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. عز الدين بن زغيبة 25 أغسطس، 2015 0 تعليق

هيئات الفتوى والرقابة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية2- أهميتها.. معوقات عملها.. وحلول مقترحة- مشروعية الرقابة الشرعية

هوية المؤسسات المالية الإسلامية تكمن في وجود هيئة رقابة شرعية تمنعها من مخالفة أحكام الشريعة في معاملاتها وتصرفاتها

في علم مقاصد الشريعة يعد حفظ الأموال من كليات المقاصد الراجعة إلى حفظ الأصل الضروري

التحديات التي تواجه العمل المصرفي الإسلامي تتطلب ضرورة وضع أنظمة وأسس وإجراءات تضمن السلامة المهنية للتدقيق والرقابة الشرعية.

منذ أن تنفس صبح المصارف الإسلامية  والمؤسسات المالية الإسلامية وبزغت شمسها، عمدت إلى تأسيس نظام للرقابة الشرعية على أعمالها وتصرفاتها وسلوكها مع العملاء، سواء أكانوا أفرادا أم مؤسسات، وجعلته عنصرا مهما في هيكلها التنظيمي، وأقامت عليه ثلة من العلماء الذين توسمت فيهم العلم والإخلاص والاختصاص، سواء أكان ذلك بصفة فردية أم جماعية، وبغض النظر عن التسمية التي أطلقتها  عليهم، سعيا منها لجعل معاملاتها وتصرفاتها مع عملائها وشركائها مطابقة لأحكام الشريعة الإسلامية، التي هي سبب وجودها وتميزها عن غيرها من المؤسسات الربوية، فكان واجبا عليها التزام ذلك وإلا خرجت عن الغرض المقصود من التأسيس وصارت عملا غير مشروع.

     إن الرقابة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية هي نوع من أنواع نظام الحسبة الذي كان متبعاً في سياسة الأمة ونظام حكمها، ووظيفة المراقب الشرعي هي امتدادٌ لوظيفة المحتسب المبنية على الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله.

     وبناء عليه فإن جميع الأدلة التي تساق للدلالة على مشروعية الحسبة تصلح أن تكون دلائل كلية تدل على مشروعية الرقابة الشرعية وتهدي إليها .

أولاً: الأدلة النقلية:

     إن من الدلائل النقلية التي تساق للدلالة على مشروعية الرقابة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية مجموع النصوص الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها: قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104)، وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران 110).، ومنه أيضا قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (التوبة:71).

      ومن نصوص السنة ما جاء عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».

     إن هذه النصوص وغيرها تدل بمنطوقها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهما كانت وسيلته، ولو كان ذلك بالقلب فقط، احتساباً لله وابتغاء مرضاته، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواردان في الآية يشملان جميع تفاصيل الحياة من العبادات والمعاملات والعادات والأخلاق، وهو الأمر الذي لم تختلف حوله كلمة الفقهاء من الأوائل والأواخر، وعمل الهيئات الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية يندرج في هذا المعنى وينضوي تحت جناحيه، بل هو جزئي من كلي كما بينا ذلك، وإن كان هناك بعض الاختلاف في وظيفة المحتسب والمراقب الشرعي، فالأول له سلطة شاملة على أهل السوق وكل من يتحرك فيه، بينما الثاني تنحصر سلطته في المؤسسة التي يعمل فيها فقط.

     وقد ذهب بعضهم إلى عدّ النصوص الواردة في أداء الأمانة وحفظها ورعايتها من الأدلة الدالة على مشروعية الرقابة الشرعية من جهة العموم؛ حيث إنها تشمل من اؤتمن على تطبيق شرع الله، وتصويب المعاملات المالية، حتى تكون منسجمة ومتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية.

     وإلى جانب هذه الأدلة الكلية الدالة على الرقابة الشرعية بعمومياتها، هناك أدلة جزئية من نصوص السنة تدل على ممارسته صلى الله عليه وسلم الرقابة على عماله وأهل السوق وغيرهم.

     عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه قال: هذا مالكم وهذا هدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً »، ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟ والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أو بقرةً لها خوار، أو شاةً تبعر»، ثم رفع يده حتى رؤي بياض إبطه يقول: «اللهم هل بلغت بصر عيني وسمع أذني».

     وقد علق ابن حجر العسقلاني على هذا الحديث، فقال: «وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم  قد حاسب ابن اللتبية، وفيه مشروعية محاسبة المؤتمن».

     ومما يندرج في هذا السياق أنه صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً  فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام » فقال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: «أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس فمن غشنا فليس منا».

     أما ما استُدلَ به من عمل الصحابة فهو: عندما قدم معاذ بن جبل من اليمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه فقال له: ارفع حسابك، فقال: أحسابان حساب من الله وحساب منكم؟ والله لا ألي لكم عملاً أبداً .

ثانياً: الأدلة العقلية:

أما من جهة المعقول فهناك جملة من العناصر تؤيد ما اتفقت عليه الأدلة السابقة وهي:

1- أن معظم المصارف والمؤسسات الماليةالإسلامية ينص قانونها التأسيسي على أنها مؤسسات تعمل وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، وأن تنفيذ هذا الالتزام لا يمكن أن يكون إلا بوجود أهل الاختصاص، وهم أعضاء هيئة الفتوى والرقابة الشرعية الذين يعرفون ويوجهون ويفتون في نوازل المعاملات والوقائع المرتبطة بها التي تعرض لتلك المصارف والمؤسسات، ويدققون عليها أعماله من حيث التزامها بأحكام الشريعة الإسلامية، لأن التزام تلك المؤسسات بأحكام الشريعة الإسلامية مرتبط ارتباطا كاملا بوجود الهيئات الشرعية ضمن هيكلها، وبدونها لا يكون لشعار الالتزام بأجكام الشريعة الإسلامية الذي ترفعه المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية؛ معنى سوى خدعة تجارية مقيتة.

     إن هوية المؤسسات المالية الإسلامية تكمن في علامتها المميزة لها عن البنوك التقليدية، ألا وهي وجود هيئة رقابة شرعية تمنعها من تجاوز حدود الشريعة ومخالفة أحكام الغراء في تنفيذ معاملاتها وتصرفاتها.

2- إن تطبيق أحكام الشريعة في معاملات المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية وجميع تصرفاتها واجب شرعي لا يمكن معرفة وجهه الصحيح فلا بد من وجود هيئة رقابة شرعية تشرف على ذلك وتراقبة، ومن ثم فإن وجود هذه الهيئات في تلك المؤسسات واجب شرعي؛ لأن القاعدة الأصولية تقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

4- إن الحفاظ على الأموال وصيانتها من جانب الوجود والعدم مطلب شرعي أمر الخلق بتنفيذه، ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة طلب منهم رعايته، وذلك بتنمية الأموال واستثمارها ودرء الخلل الواقع والمتوقع عنها.

     إن مما قرره علماؤنا في علم مقاصد الشريعة أن حفظ الأموال من كليات المقاصد الراجعة إلى حفظ الأصل الضروري، ومنحوها المرتبة الخامسة في الرعاية بالدين والنفس والعقل والنسل، وبينوا ما شرع لها من الأحكام الفرعية الكفيلة بحفظها من جانب الوجود بضبط نظام نمائها وطرائق دورانها، وكذا من جانب العدم بإبعاد الضرر عنها، ومنع أكلها بالباطل وتضييعها، وتوفير الأمن لها.

 

أهمية هيئات الرقابة الشرعية وضرورة وجودها في المؤسسات المالية الإسلامية

     تعد هيئات الفتوى والرقابة الشرعية أحد أركان المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية وشريانها الذى يتعهدها بالحياة، وطرائق نجاتها من المخالفات الشرعية، وصمام أمانها الذي يحفظها من الانحراف عن منهجها الذي بنيت عليه، وأستوت قائمة على سوقه.

     وبناء على ما سبق فقد نصت معظم المصارف في قوانينها الأساسية وأنظمتها الداخلية على أهمية خضوع معاملات هذه المصارف للرقابة الشرعية لضمان التزامها بالأحكام الشرعية.

ويمكن بيان هذه الأهمية في العناصر الآتية:

1- إن وجود هيئة الفتوى والرقابة الشرعية بالمصارف والمؤسسات المالية الإسلامية أمر بالغ الأهمية؛ حيث تقوم هذه الأولى بدراسة احتياجات المؤسسات المالية الإسلامية من الوسائل والآليات والإجراءات والصيغ التمويلية والاستثمارية لتقوم بناء عليها بابتكار المنتجات الإسلامية البديلة، لتمكن تلك المؤسسات من الانطلاق في عملها انطلاقة سليمة وراسخة، لا تتعثر أمام الأزمات إلا بالقدر اليسير الذي لا يفقدها قدرتها على المقاومة والحفاظ على التوازن المطلوب في مثل تلك الظروف، كما تقوم بدراسة العقود والمستندات والنظر في مدى استيفائها للشروط الشرعية، ومن ثم إقرارها أو تعديلها أو إلغاؤها، ومتابعة المصارف في تنفيذها والتدقيق عليها لتتأكد من مدى التزام تلك المؤسسات بقراراتها في تنفيذ السياسات والإجراءات والتقيد في استخدام المستندات والمنتجات.

2- إن مطلب الإفتاء الشرعي على المؤسسات المالية الإسلامية يمثل العمق الاستراتيجي، والخاصية المميزة للعمل المالي والمصرفي الإسلامي، ولقد تمكنت هيئات الفتوى والرقابة الشرعية وعلى مدى أربعة عقود من قيادة المؤسسات المالية الإسلامية بجدارة حتى تجاوزت بها مرحلة التأسيس إلى مرحلة التوسع والانتشار، وذلك كله في ظل بيئات مالية ومصرفية تقليدية.

3- لا يختلف اثنان في أن المصارف الإسلامية جاءت بديلا للبنوك التقليدية - التي تعتمد الربا أساسا لتعاملاتها المالية - لتخرج الناس من ضيق التعامل مع المؤسسات المادية التقليدية وحرج الخوض في المعاملات الربوية إلى رحب الحلال الفسيح في المعاملات الإسلامية وذلك من خلال المصارف الإسلامية، لكن هذا لا يحصل في المؤسسات المالية الإسلامية إلا إذا كانت هناك هيئة رقابة شرعية تشرف عليها، وتراقب أعمالها وأداءها وتوجهها، وتقدم لها الحلول عند بروز المشكلات والعقبات.

4- إن الذين يسهرون على قيام المؤسسات المالية الإسلامية بمهمتها التي وجدت من أجلها سواء في ذلك الإداريون أم الموظفون الذين هم على اتصال مباشر بالمتعاملين لا يمتلكون أدوات الشريعة ولا تفاصيل علومها في الغالب الأعم، بل إن كثيراً منهم جاؤول من مؤسسات ربوية، وبالتالي فإن تلك المؤسسات في حاجة ماسة لوجود هيئة رقابة شرعية تعينها على بيان أحكام الشريعة في معاملاتها وتصرفاتها كما تساعدها على التكيف والتعاطي مع الوضع المناسب للمصارف الإسلامية دون الرجوع إلى الاقتباس من أعمال المؤسسات التقليدية.

5- إن الاقتصاد اليوم قد تعقدت معاملاته المالية وأنواعه التجارية، وتوسعت فيه شبكة التعاون بين المؤسسات المالية بطريقة غير مسبوقة، وانتشرت معه أنواع جديدة من التصرفات المالية وصناعتها، كبطاقات الائتمان، والحسابات بأنواها، والتجارة الإلكترونية التي لا يوجد لها أحكام في المصادر الفقهية، وإن وجدت الأحكام فإن المصرفيين القائمين على النشاط المصرفي غير مؤهلين للكشف عنها بأنفسهم، فهذا كله يؤكد ضرورة وجود هيئة رقابة شرعية ترعى العمل الشرعي في تلك المصارف والمؤسسات وتراقبه وتدفع به إلى أقصى مداه وذلك بالتعاون مع إدارة تلك المؤسسات.

6- إن أنواع الاستثمار والتمويل في المؤسسات المالية الإسلامية كثيرة ونوازله عديدة ومن الصعب أن توجد لها قالبا واحداً تنتظم فيها جميع العمليات، وبالتالي فهي محتاجة إلى من ينظر في كل ما يعرض عليها من العمليات والمعاملات وغيرها من العلماء المتخصصين، ولا يتحقق ذلك للمؤسسة المالية على الوجه المطلوب والمرغوب إلا إذا انتظم أولئك العلماء في هيئة تلبي المؤسسات بطريقة سريعة ودائمة مهما كانت كثافة تلك الطلبات ووتيرة ورودها.

7- إن وجود هيئة للرقابة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية يكسبها مصداقية لدى الرأي العام، ويعزز ثقة المساهمين والموظفين والمتعاملين بها، ولاسيما إذا كان التزام تلك المؤسسة بمقررات الهيئة التزاماً كاملاً، كما يشيع جواً من الارتياح والطمأنينة في نفوسهم، ويزيل شك المترددين في التعامل معها.

8- هناك العديد من التحديات تواجه العمل المالي المصرفي الإسلامي، ولقد تواطأت الدواعي والأسباب العلمية والعملية، ونادي العديد من المصرفيين الإسلاميين والفقهاء الشرعيين بضرورة تطوير أنظمة الرقابة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية من خلال وضع أنظمة وأسس وإجراءات تضمن السلامة المهنية للتدقيق والرقابة الشرعية، ولن يتأتى ذلك إلا في ظل وجود هيئة شرعية متمكنة في الفتوى والرقابة.

    إن العصر الذي نعيش فيه تحدث فيه الكثير من الابتكارات والتطورات المصرفية، وفي كل يوم تظهر صيغ جديدة في المعاملات المالية؛ مما يتطلب وجود هيئة من العلماء عندها الإحاطة بقواعد المعاملات الإسلامية وعندها القدرة للإجابة على تلك القضايا والنوازل المصرفية المعقدة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك