هل كانت الهجرة النبوية هروبا؟
من الأحداث التي كانت نقطة تحول في التاريخ البشري عموما والتاريخ الإسلامي خصوصا، الهجرة النبوية المطهرة، غير أن الطاعنين في الدين لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا أدخلوا فيها العقول القاصرة، وأولوا الأحداث بما لا يتوافق مع الوحي الشريف، فقالوا إن الهجرة النبوية كانت هروباً وخوفاً من الأذى الذي تعرض له النبي - صلى الله عليه وسلم -، في مكة، ولأن هذا الافتراء يتعلق بحادث عظيم كحادث الهجرة، أردت أن أقف معك -أخي القارىء- للرد على هذا الافتراء.
الهجرة انتقال وليس هروباً
تجمع كتب اللغة على أن الهجرة هي الانتقال من مكان إلى مكان وتكون غالباً من موطن الفرد الأصلي إلى مكان آخر بهدف البقاء لفترات طويلة، حتى القانون الدولي يعرف الهجرة بالمغادرة التي هي الانتقال من إقليم دولة الفرد إلى إقليم دولة أخرى، دون الرجوع إلى نية المهاجر والدوافع التي تحمله على ذلك. وقد حدثت تلك الهجرة لأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تكن إلا مجرد الانتقال لأسباب ودوافع، ولنيات ومستقبل يعلمه الله -تعالى.
الهجرة كانت أمراً من الله -تعالى
وفي كلماته - صلى الله عليه وسلم - يوم خرج من مكة دليل على ذلك؛ حيث قال عند خروجه منها: «أنت أحب بلاد الله إلى الله وأنت أحب بلاد الله إليّ فلو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك» رواه الطبري في تفسيره وابن كثير وصححه القرطبي، وفي رواية: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» رواه الترمذي، وقال حسن غريب صحيح، فهذه الكلمات تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دُفع دفعاً بقدر الله -تعالى- إلى الخروج من مكة (أٌخرج) وإلا فإنه ظل صابراً داعياً محتسباً ثلاث عشرة سنة مع شدة ما يلقاه من قومه، ولم يخرج إلا بعد أن جاءه الأمر بالخروج منها، وفي الحديث: «إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ» رواه البخاري. ورؤيا الأنبياء وحي.
السبب الحقيقي للهجرة
الهجرة في أصلها جهاد واختبار؛ إذ يترك المهاجر ماله ووطنه وما يحب لأجل الإقامة في مكان يستطيع معه إقامة دينه وشعائره، وذلك أشد بلاء، فلم يكن السبب الحقيقي للهجرة الهروب من أعباء الدعوة، ولا الخوف المجرد من المشركين، بل الهدف من الهجرة إقامة الدين والشعائر في مأمن من قريش؛ ولذا جعل الله أهل الهجرة في أعظم منزلة، فقال -تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} التوبة: 20.
الأنبياء أقوى الناس إيماناً وشجاعة
لقد هاجر رسل الله عامة أو عدد كبير منهم، ولم تكن هجرتهم خوفاً فذلك لا يستقيم مع اختيار الله إياهم رسلاً سيتحملون أعظم رسالة، هاجر سيدنا إبراهيم، قال الله -تعالى-: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العنكبوت: 26، وفي آية أخرى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} الصافات: 99، انتقل من بلد إلى بلد حتى استقر به المقام في فلسطين، وفي المدينة التي دفن فيها وسميت باسمه - صلى الله عليه وسلم- مدينة الخليل إبراهيم، وهاجر موسى -عليه السلام- أيضا بعد أن قتل ذلك القبطي خطأ واستغفر الله وقال له من قال: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} القصص: 20.
كيف يخاف سيدنا موسى -عليه السلام- في هجرته؟
لعل قائلاً يقول: كيف يخاف موسى - صلى الله عليه وسلم- في هجرته؟ وكيف يقول الله عنه: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} القصص: 21؟ والجواب عن هذا من وجهين: الوجه الأول أن الخوف هنا كان من طلب المدينة له ليقتلوه ولم يكن من الحكمة البقاء يومئذ، ولو انتظر حتى أمسكوه فقتلوه لم يكن لبقاء سيدنا موسى نبوة بعد ذلك، الوجه الثاني: أن هذه الحادثة كانت قبل البعثة وقد دفع إلي الخروج دفعاً أيضاً لحكمة، فلما بعث رسولاً عاد إلى فرعون الذي وصفه الله -تعالى- بقوله: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى}، فلو كان خائفاً بالمعنى الذي يقصده الطاعنون لما رجع رافعاً رأسه واقفاً أمام فرعون ليقول له {أرسل معنا بني إسرائيل} الشعراء: 17.
النبي ليس أول المهاجرين
لقد حدثت هجرتان قبل الهجرة إلى المدينة؛ حيث بدأ عدد المسلمين في الزيادة فخاف منهم الكفارُ، فاشتد أذاهم له - صلى الله عليه وسلم -، يقول الإمام ابن القيم: فأَذِن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة إلى الحبشة وقال: إن بها مَلكًا لا يُظلَمُ النَّاسُ عنده، فهاجر من المسلمين اثنا عشر رجلًا وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان، وهو أول من خرج، ومعه زوجته رُقَيَّةُ بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار، فبلغهم أنَّ قريشًا أسلمتْ، وكان هذا الخبرُ كذبًا، فرجعوا إلى مكة، فلما بلغهم أن الأمر أشدُّ ممّا كان، رجع منهم مَنْ رجع، ودخل جماعة، فَلَقُوا مِنْ قُريش أذى شديدًا، وكان ممن دخل عبدُ الله بنُ مسعود، فأذن لهم في الهجرة ثانيًا إلى الحبشة، فهاجر مِن الرجال ثلاثةٌ وثمانون رجلًا، ومن النساء ثماني عشرة امرأة، فأقاموا عند النجاشي على أحسن حال، فبلغ ذلك قريشًا، فأرسلوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة في جماعة، ليكيدوهم عند النجاشي، فرد الله كيدهم في نحورهم. ولو كان الخوف والهروب هو الدافع للهجرة لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول المهاجرين إلى الحبشة التي لا يُظلم عند ملكها أحد.
الخروج من دار الحرب
لقد كانت الشدة من قريش كما مر معنا في كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في أعلى صورها، فجاء الأمر بالهجرة للخروج من دار الهجرة لأجل اللجوء إلى إخوة مناصرين في المدينة يزداد بهم سواد المسلمين قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الأنفال: 72، وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر:9، فهذه القوة التي ستحدث من خلال الإيواء والنصرة اللذين في المدينة هدف من أهداف الهجرة النبوية، فأصبح بذلك الخروج يومئذ من أوجب الواجبات، لا هرباً كما يقول الطاعنون.
للهجرة وجه آخر
هناك وجه آخر لذلك الابتلاء وهو اختبار أهل المدينة، الذين استقبلوا إخوانهم بترحاب، يحبون قدومهم ولا يتأخرون عن نصرتهم، قال -تعالى- واصفاً حال المهاجرين والأنصار: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} الحشر، فأما الأولون فوصف ضعفهم وأما الآخرون فوصف الله مساندتهم لإخوانهم، وذلك ابتلاء لهم.
كانت الهجرة انتصارًا
كانت انتصاراً على النفس في اختبار عظيم؛ حيث مفارقة المال والأهل والبلد وذلك البلاء لا يستطيعه إلا أصحاب النفوس القوية؛ ولذا جعل الله الهجرة اختباراً للأنبياء -صلوات الله عليهم- ولو قلنا إنما كان خروجهم هرباً لكان ذلك اتهاماً لأفضل الخلق، الذين اختارهم الله -تعالى- لرسالة لا يستقيم معها الخوف، بل كانت الهجرة خطوة استراتيجية، وبحثاً عن أرض جديدة آمنة وصوراً من صور الولاء التي قال الله عنها: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} التوبة: 71، وهو اختبار أيضاً لأهل المدينة الذين قال عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق. رواه البخاري ومسلم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لاتوجد تعليقات