نعمة الأمن والأمان (2)
ذكرنا في المقال السابق أن الأمن والأمان من المطالب المهمة والضرورية للبشرية كلها، وقلنا: إن العلماء قدَّموا الأمن على الرزق مستدلين بقول الله -تعالى-: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدًا آمنًا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر}، كما ذكرنا أن الأمن يحقق الهدف الأسمى وهو إقامة دين الله -عزوجل- والدعوة إلى الله -تعالى-، وذكرا أدلة ذلك من القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، واليوم نتكلم عن الوسائل والسبل التي نحقق بها الأمن المنشود، الذي نؤدي به دورنا على أكمل وجه.
أعظم ما نحصل به الأمن والأمان الحقيقي تحقيق مقامات الدين الثلاث في حياتنا بالمفهوم الصحيح، وهي الإسلام والإيمان والإحسان؛ فلو أردنا أمنا وأمانا نجعل الشريعة تسود، نجعل الشريعة تقود وتحكم؛ فالشريعة تحقق العدل والمساواة، والشريعة تحقق المساواة الحقيقية بين الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، الكبير والصغير، الرجل والمرأة، المسلم وغير المسلم، الكل له حقوقه كاملة غير منقوصة.
ففي حديث عائشة -رضي الله عنها-: «أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت؛ فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؛ فكلمه أسامة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتشفع في حد من حدود الله؟، ثم قام فخطب ثم قال: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها»، متفق عليه. هذه هي المساواة، وهذه هي الشريعة وما تحققه للناس.
الشريعة تحقق العدل
والشريعة تحقق العدل، يقول عمر رضي الله عنه عندما جاءه أحدهم ووجده نائمًا في المسجد دون حراسة، وينام نوما عميقا، في بساطة وتواضع؛ فهز رأسه وقال: عدلت فنمت يا عمر.
أليست هذه الشريعة التي جعلت شريح القاضي يحكم ليهودي على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وهو الذي نصبه قاضيا؟ وجلس بالتساوي مع اليهودي على الدرع وحكم لليهودي؛ فماذا قال: بمثل هذا أقيمت السماوات والأرض أي أي بالعدل، وفي رواية أنه دخل في الإسلام.
نحن اليوم عندما نرى المحسوبية وعدم المساواة والتجاوزات والوسائط؛ فأين الأمن والأمان إذا شعر الناس أن الحقوق ضائعة مسلوبة؟ لا يمكن أن يتحقق أبدًا، الشريعة كفيلة وقادرة على أن تضبط الجميع بحزمها وحسمها، بعدلها وإنصافها، وبعدم تفريقها بين أفرادها أيا كانوا تحت أي مسمى.
تحقيق الإيمان
والإيمان الذي نعنيه، هو الذي يعمل على استقرار العقيدة في قلوبنا، لنستمد منها القدرة اللازمة للتعظيم، والإجلال، والتوقير، والتقدير للشريعة، حتى نذعن لها؛ فنستجلب الأمن والأمان لنا جميعًا؛ فالشريعة هي المدخل الأساس للأمن والأمان، كما في قصة سيدنا إبراهيم الطويلة وفي آخرها أنه قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون}(الأنعام:81)، هؤلاء هم الذين لهم الأمن؛ لأن الإيمان يستجلب الأمن، وبغير الإيمان لا يوجد أمن، قال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} (النحل:97).
وأجمل ما يبشر به الناس في الظروف الصعبة والحرجة، في هذه الحالة التي انتشرت في أوساط المسلمين، من الهلع والجزع والخوف والاضطراب والارتباك، قول الله -تعالى-:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} (النور:55).
تحقيق الإحسان
والمقام الثالث الذي يتحقق به الأمن والأمان هو مقام الإحسان، ومعناه أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومعناه أن الإيمان إذا رسخ في القلب يظهر أثره على الجوارح والأركان في عمل صالح في حياة العبد كلها. ومقام الإحسان يرمز إلى أهمية اليقين في رقابة الله عليك وعلى أفعالك جميعًا، هذه الرقابة التي تجعل العبد رهن الإشارة وطوع الأمر؛ لأنه مراقب ومرصود، إنه على يقين أن الله لا يخفى عليه شيء.
ترك الذنوب والمعاصي
ومن أفضل ما يستجلب به الأمن والأمان، هو ترك الذنوب والمعاصي، والتوبة إلى الله -تعالى-؛ فالذنوب والمعاصي من أعظم أسباب المصائب، وتسليط الأعداء والمحن والإحن والأمراض والأسقام، قال -تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير} (الشورى:30)، ما حصل لكم من صنع أيديكم، الصحابة في أُحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا}(آل عمران:165)، كيف يحدث لنا هذا ونحن جند الله ومعنا رسول الله ونحن على الحق وأولئك على الباطل عباد أصنام وأوثان، كيف يحدث لنا ما حدث؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}(آل عمران:165)؛ فما نزل بلاء إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة.
كفر النعم
ومن الذنوب التي تذهب بالأمن والأمان كفر النعم، قال -تعالى-: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون} (النحل:112)؛ بسبب كفر النعمة أُخذت باقي النعم، كانوا في رغد من العيش وسعد وهناء وطمأنينة، ضيعوه بهذا الذنب الذي قد يستهين به بعضهم.
ولذلك من أعظم أسباب الحفاظ على نعمة الأمن والأمان وتثميرها، النظر لحال الآخرين ممن فقدوها؛ فالسعيد من وعظ بغيره، انظر للناس من حولك ماذا يحدث لهم، انظر إخوانك في ليبيا، وفي العراق، وفي سوريا، واليمن، وفلسطين، في بورما، وفي كشمير، أنت ما زلت في عافية، قال -تعالى-: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم:7)، من الأمن، من الأمان، من سائر النعم إذا أردت أن تحافظ عليها اشكر ربك عليها، «عليكم بالشكر؛ فإن الشكر زيادة» وطيبوا النعمة بالشكر كما قال علي رضي الله عنه .
لزوم غرز العلماء
ومن أعظم أسباب تحصيل الأمن والأمان لزوم غرز العلماء؛ فهم الأجدر والأقدر على تفعيل فقه المصالح والمفاسد، وتطبيق خير الخيرين وشر الشرين، وفقه المآلات والموازنات، والمواءمات، وهم الأجدر، على تفويت الفرصة على الباطل في الاستدراج والاستفزاز لإيقاع الصدام والفوضى، قال الله -تعالى-: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:83).
الدعوة السلفية
الدعوة السلفية المباركة التي نشرف جميعًا بالانتساب إليها، كيف تميزت؟ وبماذا تميزت؟ بعلمائها، وبمشايخها الذين أتقنوا فقه المصالح والمفاسد، ونجحوا في تفعيله وتطبيقه، وجنبوا أبناء هذه الدعوة الصدام، كم من فخ دُبّر للدعوة، وكم من مرة حاولوا استدراجها واستفزازها؟ وكم بذلوا من الأموال والجهود والطاقات والإمكانيات حتى يدخلوها في النفق الصدامي، وفي كل مرة كانوا يفشلون وسيفشلون.
تفعيل دور الإعلام
ومن أعظم أسباب تحصيل الأمن والأمان، أمر في غاية الأهمية، ألا هو تفعيل دور الإعلام بالصورة الصحيحة؛ لأن الإعلام من الممكن أن يصدر حالة الجزع والفزع والهلع والإحباط والهزيمة النفسية واليأس، وبالتالي الفوضى.
فلو أن الإعلام واع وأمين، وعنده مهنية، وعنده حرص على سلامة المجتمع وأمنه واستقراره، وعنده موازنات حقيقية للقوى الإقليمية والعالمية والتركيبة الداخلية، لو كان الإعلام يضبط لهجته ولسانه، ويوجه الناس بالطريقة الصحيحة، لتحقق الأمن والأمان؛ فالإعلام وسيلة مهمة جدًا في نشر الأمن والأمان.
تفعيل دور المسجد
ومن أعظم وسائل الإعلام على الإطلاق المسجد؛ فإذا استطعنا تفعيل دور المسجد، ووضع المساجد في أيد أمينة، تتقي الله -تعالى-، تعرف كيف توجه الأمة، كيف تبث روح الأمن والأمان في نفوس الناس، كيف تبين حرمة الدماء والأعراض والأموال، وكيف تشعر الناس بالمسؤولية وتحملهم الأمانة؛ لتغيرت أحوالنا وتحقق الأمن المنشود.
الدعاء والتضرع
أيضًا من الأسباب الرائعة والمؤثرة في تحقيق الأمن والأمان، الدعاء والتضرع، كيف لا؟ والنبي صلى الله عليه وسلم مع كل مطلع هلال شهر عربي عندما يرى الهلال يقول: «هلال خير ويمن وبركة، اللهم أهله علينا بالأمن والأمان وبالسلامة والإسلام» ما هذا؟ الأمن والأمان ويكررها كل شهر.
كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث: «عليكم بالدعاء؛ فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد»، إنه سلاح بتار، ويقول في الحديث الآخر: «عليكم عباد الله بالدعاء؛ فإن الدعاء ينفع مما نزل من القضاء والقدر ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل؛ فيقابله الدعاء؛ فيعتركان إلى يوم القيامة يتصارعان».
الشيخ الأرناؤوط -رحمه الله- حسَّن حديث: «لا يرد القضاء إلا الدعاء»، ولا تعارض.
قال الله -تعالى-: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ} (النمل:62)، نحن في كربة، نحن في مرحلة فارقة، في مرحلة صعبة، نحتاج أن نربط القلوب بخالقها، الأرض بالسماء، مع الأخذ بالأسباب المشروعة والمتاحة، مع التوكل على الله -تعالى-، مع اليقين بأنه لا يكون إلا ما يريد -سبحانه-؛ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
لاتوجد تعليقات