رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني 24 أغسطس، 2017 0 تعليق

نعمة الأمن وأهميتها وسبيل تحققها والحفاظ عليها (1) الأمن نعمة للجميع ولا يكون ذلك إلا بولاية وقوة وسمع وطاعة في المعروف وصبر على الظلم والجور

 

 

إن الأمن والاستقرار نعمةٌ عظيمٌ نفعها، كريمٌ مآلها، وهي مَظَلُّةٌ يستظل بها الجميع مِنْ حَرِّ الفتن والتهارج، وهذه النعمة يتمتع بها الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والرجال والنساء، بل البهائم تطمئن مع الأمن، وتُذْعَر وتُعطَّل مع الخوف واضطراب الأوضاع، وتهارج الهمج الرعاع، فنعوذ بالله من الفتن التي تُعْمِي الأبصار، وتُصِمُّ الأسماع، لذلك كان لابد أن نقف مع هذه النعمة لنستعرض أهميتها وسبيل تحققها والحفاظ عليها، واستكمالا لهذا الموضوع نقول:

     سأل أبو سلمة بن يزيد الجعفي النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: «أرأيت إن قامت علينا أمراء، يسألوننا حقهم، ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا؟»، فتأمل إعراض النبي -صلى الله عليه وسلم - مرة أو مرتين عن الجواب عن سؤال، وتأمل جوابه -صلى الله عليه وسلم - في حق أمراء قلوبهم قلوب الذئاب، في جثمان إنس، وجوابه -صلى الله عليه وسلم - في حق مَنْ ضَرَبَ الظَّهْرَ، وأخذ المال!!

     ولو أن أحدًا من كبار العلماء اليوم، سُئِلَ هذا السؤال؛ فأعرض عن الجواب اتباعًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ولزومًا لهدْي السلف، وإطفاءً لفتنة قد تحدث من الجواب على ذلك لقال فيه كثير من الشباب المتحمِّس بجهل: جبان، ولا يستطيع أن يقول كلمة الحق، وعميل، ولا يوثق به، ولا يُرْجَع إليه!! فنعوذ بالله من تصدُّر الحدثاء، والجرأة على العلماء!!

امتثال أبو ذر رضي الله عنه

     ولقد امتثل أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه - هذه الأوامر النبوية، ولم يكن مفتاح فتنة - مع غيرته، وصِدْق لهجته، وصَدْعه بالحق -رضي الله عنه - فقد جاء في (السنة) لابن أبي عاصم، من طريق معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما  - قال: لما خرج أبو ذر إلى (الرَّبَذَة)؛ لقيه رَكْبٌ من أهل العراق، فقالوا: يا أبا ذر، قد بلغنا الذي صُنِع بك، فَاعْقِدْ لواءً؛ يأتيك رجالٌ ما شئتَ، قال: مَهْلًا مَهْلًا يا أهل الإسلام، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: «سيكون بَعْدي سلطان، فأعِزّوه، من التمس ذُلَّه؛ ثَغَر ثغرة ً في الإسلام، ولا يُقبلُ منه توبة؛ حتى يعيدها كما كانت».

الحفاظ على بقايا الخير

     فهذا أبو ذر الصادع بالحق، الزاهد الورع، الذي لم يقبل أي تغيير لما عهده أيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لم يرض أن يُسْتَدْرَج لإذلال السلطان، مع وجود ما يكرهه من المخالفات عند كثير من  الناس، ومع توافر الأَتْباع - لو أرادهم - ولكن الأمر أعظم من ذلك عند من يفهم الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة، كل هذا من أجل الحفاظ على بقايا الخير، واستمرار الأمن والهدوء؛ لأن حق الله -عز وجل  - وحق العباد لا يتأتَّيان على الوجه الصحيح إلا مع الأمن، ولا أمن إلا بحكومة قوية، ولا قوة إلا بسمع وطاعة في المعروف، مع نصح وصبر عند وجود المنكرات والظلم.

أعظم الواجبات

     قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى  -: «يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها؛ فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع؛ لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد عند الاجتماع مِنْ رَأْسٍ، حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم» رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. فأوجب -صلى الله عليه وسلم - تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيهًا بذلك على سائر أنواع الاجتماع؛ ولأن الله -تعالى- أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد، والعدل، وإقامة الحج، والجُمَع، والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، لا تتم إلا بقوة وإمارة؛ ولهذا رُوِي: أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمامٍ جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك».

دعوة السلطان

     قال: «ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» رواه مسلم.

     وقال: «ثلاث لا يُغَل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط مَنْ وراءهم» رواه أهل السنن، وفي (الصحيح) عنه أنه قال: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة» قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم».

     قال: «فالواجب اتخاذ الإمارة دِينًا وقُربة يُتَقَرّب بها إلى الله؛ فإن التقرب إليه بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يَفْسُد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة والمال بها...».اهـ. 

بين الحاكم والمحكوم

     وقال أيضًا ـ: «ولهذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم - أمته بتولية ولاة الأمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله تعالى...» ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما  - كما سبق، ثم قال: «فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يُوَلَّى أحدهم كان تنبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك؛ ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها دينًا يتقرب به إلى الله، ويفعل فيها الواجب - بحسب الإمكان - من أفضل الأعمال الصالحة...».اهـ.

وقال شيخ الإسلام: «فإن الملك الظالم لا بد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه، وقد قيل: ستون سنة من إمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام...»..اهـ.

تحصيل المصالح وتكميلها

     وقال أيضًا: «والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ورجحت خير الخيرين بتفويت أدناهما، وهذا من فوائد نصب ولاة الأمور، ولو كان على ما يظنه الجاهل لكان وجود السلطان كعدمه، وهذا لا يقوله عاقل، فضلًا عن أن يقوله مسلم، بل قد قال العقلاء: ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان، وما أحسن قول عبد الله بن المبارك:

لولا الأئمة لم تأمن لنا سبل                وكـان أضعفنا نهبًا لأقوانا

     وقال أيضًا: «ومن المعلوم: أن الناس لا يصلحون إلا بولاة، وأنه لو تولى من هو دون هؤلاء - يعني بني أمية وبني العباس - من الملوك الظلمة؛ لكان ذلك خيرًا من عدمهم، كما يقال: ستون سنة من إمام جائر؛ خير من ليلة واحدة بلا إمام...».اهـ. 

صلاح السلطان

      وقال -رحمه الله تعالى  -: «فإذا صلح ذو السلطان صلحت أمور الناس، وإذا فسد فسدت بحسب فساده، ولا تفسد من كل وجه، بل لابد من مصالح؛ إذْ هو ظل الله، لكن الظل تارة يكون كاملًا مانعًا من جميع الأذى، وتارة لا يمنع إلا بعض الأذى، وأما إذا عُدِم الظل فسد الأمر».اهـ.

الأمن نعمة للجميع

     فظهر من مجموع ذلك: أن الأمن نعمة للجميع، وأن ذلك لا يكون إلا بولاية وقوة، ولا يكون ذلك إلا بسمع وطاعة في المعروف، وصَبْر على الظلم والجور، وقد رأينا بعض الشعوب الذين سقط حكامهم، وضاعت دُوَلُهم - على عوجها وانحرافها -لم يعد لهم كرامة كما كانت لهم من قبل، ورأيناهم مشتَّتِين في كثير من البلدان، وتفرقوا شذر مدر في البلاد، وأُهين الكريم، وتنكّر لهم اللئيم، واحْتُقِر العزيز المنيع، وتقطعت الأرحام، وحيل بين الرجل ووالديه وذويه، ولذا يقال: شعب بلا حكومة شعب بلا كرامة، وسلطان غشوم خير من فتنة تدوم!

ماذا يريد الشباب المتحمس؟

     فهل يريد الشباب اليوم أن يكون المسلمون كذلك في كل بلد: بإثارة الفتن، وزعزعة الأمن، مما يُفضي إلى سقوط الحكام - وإن كانوا في الجملة جائرين -؟! فنكون كمن أراد أن يُطبَّ زكامًا؛ فأحدث جذامًا؟! أو كمن أراد أن يُطبَّ جذامًا؛ فأهلك الأصحاء شيبًا وشُبَّانًا؟! فنعوذ بالله من كيد الكائدين، وعبث العابثين!!

     ألا يعتبر الشباب بما جرى في عدد من الدول، عندما أسقطوا حكامهم - وهم شر مستطير على رعيتهم - فقد انتشرت الفتنة في كل بيت، وزاد البلاء واستفحل، وأنهم الآن يتمنون رجوع الأيام السابقة - على ما فيها - بعد أن جرَّبوا الفوضى، ولكن هيهات هيهات، وقد قُتل وجُرح الملايين من الناس، وهُدِّمت البيوت والمساجد، وانتُهِكت الحرمات، وسُلبت الأموال، وقُطعت الطرق، والله المستعان!!  

هل سيترككم أعداء الإسلام وشأنكم؟!

     ثم لو سلمنا أنكم - أيها الشباب - قد أسقطتم الدولة الفلانية، ونجحتم في ذلك - مع أن هذا لا يكون إلا بإهلاك الحرث والنسل!! - والمسلمون على هذا الحال من الضعف، فهل سيترككم أعداء الإسلام وشأنكم؟! أم سيجعلونها حربًا أهلية بينكم وبين طوائف الشعب، الذين يصدق على كثير منهم قوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}، ثم يتدخل الأعداء - بعد الخراب والدمار، كما تدخلوا في كثير من البلدان - فتكون الجماجم والأشلاء من المسلمين - منكم وممن حاربكم - ثم تكون الثمرة لغيرنا، والأمر كما قيل: نحن نمسك برأس البقرة وقرنيها، وأعداء الإسلام يحلبونها!! فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

لماذا يدافع علماء أهل السنة عن الحكام؟

     إن علماء أهل السنة لا يدافعون بذلك عن الدول المسلمة الظالمة حُبًّا في ظلمهم، أو ركونًا إلى دنياهم!! فهم من أبعد الناس عن ذلك، وهم أقل الناس حظًّا مما في يد الحكام، ولكن ينكرون الفتنة وما يُفضي إليها؛ اتباعًا لمنهج السلف، وحفاظًا على ما بقي من خير، وصيانة للدماء من السفك، وللحرمات من الانتهاك، وإن كانوا يتألمون لوجود المنكرات، ولا يجحدون وجودها، ولا يبالغون في الاعتذار لأهلها، وينصحون ما أمكن بالحذر من مَغبة الذنوب، ويدعون الله - عز وجل- باختيار الأصلح للإسلام والمسلمين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك