رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 10 أكتوبر، 2016 0 تعليق

نظـرات في منهج طلب العلوم الشرعية

الاشتغال بالعلم الشرعي وآلاته أفضل من وصلاة النافلة - كما قال الإمام الشافعي؛ لأن العلم الشرعي يعمّ صاحبه والناس

 

 

سلسلة رسائل إلى الأجيال- جمعية الشريعة

 

(العلم نور)، عبارة ما زالت الأجيال المتلاحقة من طلبة العلم تتناقلها في حلقات العلم واللغة والأدب، وهي -بلا شك- عبارة صادقة تحمل في طياتها الكثير من المعاني والحقائق الكريمة. فالعلم نور، بكل معاني النور الذي تدركه الأبصار وتستنير به البصائر. والعلم نور، يُهتدى به في ظلمات الجهل والعماية إلى أنوار الحقائق ومشارق المعارف.

والعلم نور، ينقذ من ضلالات الانحراف في الاعتقاد والعبادة والعمل ليستقيم السالك على جادة الحق والهدى في أصول الدين وفروعه. وفي أحكامه وآدابه.

     إلا أن ملتمسي النور تختلف طرائقهم في الوصول إليه، وتتنوع سبلهم في الاقتباس من ضيائه، يحكمهم في ذلك بغيتهم من ذلك النور وقدر حاجتهم إليه، فمن أراد أن ينير موضعا ضيقا ويبصر شيئا قريبا كفاه من النور الشيء القليل، وأما من أراد أن ينير للناس حياتهم ويرشدهم إلى سبيل الهدى وينذرهم من طرائق الغواية والردى احتاج إلى مثل الشمس في ضيائها ونورها ليبلغ غايته ويحقق هدفه.

     والعلم بشريعة الله تعالى، أصولها وفروعها، وأحكامها وآدابها، هو النور الأعظم الذي تحتاجه البشرية اليوم لتخرج من التيه الكبير الذي دخلت فيه، ولتنقذ نفسها من دوامة الشهوات والشبهات التي غرقت فيها وأحاطت بها من كل مكان، قال -تعالى-: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿٥٢﴾

     صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (الشورى:52-53)، وقال -تعالى-: {الر ۚ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (إبراهيم:1-2).

     ومن هنا كان العلم الشرعي خير ما يفني الإنسان عمره في تحصيله، وأسمى ما يبذل من وقته وماله من أجل طلبه والترقي في درجاته ورتبه، وذلك لعظيم فضله ورفعة قدره، كما شهدت بذلك النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، قال علي بن أبي طالب]: كفى بالعلم شرفا أن يدعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذما أن يتبرأ منه من هو فيه.

وقال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء، وقال أيضا: لم يعط أحد في الدنيا شيئا أفضل من النبوة، وما بعد النبوة شيء أفضل من العلم والفقه. (تذكرة السامع والمتكلم، ص:10).

     ومن هنا كان الاشتغال بالعلم الشرعي وآلاته أفضل من صلاة النافلة، كما قال الشافعي -رحمه الله-؛ لأن نفع العلم يعم صاحبه والناس والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها؛ ولأن العلم مصحح لغيره من العبادات فهي تفتقر إليه، وتتوقف عليه ولا يتوقف هو عليها؛ ولأن العلماء  ورثة الأنبياء -عليهم الصلاة والتسليم- وليس ذلك للمتعبدين؛ ولأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه -أي في العلم-؛ ولأن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه وغيره من النوافل تنقطع بموت صاحبها؛ ولأن في بقاء العلم إحياء الشريعة وحفظ معالم الملة. (تذكرة السامع والمتكلم، ص:10).

     ومعلوم أن الغايات الشريفة والمطالب العالية لا تنال بدنو الهمة ولا بضعف العزيمة، وكذلك فإن بلوغها وإدراكها لا يكون إلا بسلوك سبيلها الموصل إليها، وكما أن من سلك طريق العلم بالكسل والتهاون لم يصل أبدا فمثله من جد واجتهد في طلب العلم على غير المنهج الصحيح لم يصل إلى هدفه ومأموله أيضا.

     وقد أشار إلى هذا المعنى ابن عبدالبر في جامعه؛ حيث قال: «اعلم -رحمك الله- أن طلب العلم في زماننا هذا وفي بلدنا هذا قد حاد أهله عن طريق سلفهم، وسلكوا في ذلك ما لم يعرفه أئمتهم، وابتدعوا في ذلك ما بان به جهلهم وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم، فطائفة منهم تروي الحديث وتسمعه وقد رضيت بالدؤوب في جمع ما لا تفهم وقنعت بالجهل في حمل ما لا تعلم، فجمعوا الغث والسمين، والصحيح والسقيم، والحق والكذب، في كتاب واحد، وربما في ورقة واحدة، ويدينون بالشيء وضده، ولا يعرفون ما في ذلك عليهم، قد شغلوا أنفسهم بالاستكثار عن التدبر والاعتبار، فألسنتهم تروي العلم وقلوبهم قد خلت من الفهم، غاية أحدهم معرفة الكتب الغريبة والاسم الغريب أو الحديث المنكر.

     وطائفة هي في الجهل كتلك أو أشد، لم يعنوا بحفظ سنة ولا الوقوف على معانيها ولا بأصل من القرآن ولا اعتنوا بكتاب الله -عز وجل- فحفظوا تنزيله، ولا عرفوا ما للعلماء في تأويله، ولا وقفوا على أحكامه، ولا تفقهوا في حلاله وحرامه، قد طرحوا علم السنن والآثار وزهدوا فيهما، وأضربوا عنهما فلم يعرفوا الإجماع من الاختلاف، ولا فرقوا بين التنازع والائتلاف، بل عولوا على حفظ ما دون لهم من الرأي والاستحسان الذي كان عند العلماء آخر العلم والبيان، وكان الأئمة يبكون على ما سلف وسبق لهم فيه، ويودون أن حظهم السلامة منه» (جامع بيان العلم وفضله 170/2).

     وقد شارك ابن عبدالبر هذه الملاحظة وتلك الشكوى الإمام برهان الدين الزرنوجي في مقدمة كتابه (تعليم المتعلم)؛ حيث قال: «فلما رأيت كثيرا من طلاب العلم في زماننا يجدون وإلى العلم لا يصلون، ومن منافعه وثمراته، وهي العمل به والنشر (لمسائله بالتعليم)- يحرمون، كما أنهم أخطؤوا طرائقه، وتركوا شرائطه، وكل من أخطأ الطريق ضل، ولا ينال المقصود قل أو جل، أردت وأحببت أن أبين لهم طريق التعليم على ما رأيت في الكتب وسمعت من أساتذتي أولي العلم والحكم» (تعليم المتعلم، ص:27).

ولأجل هذا القصد وعلى مثل هذا المنوال في الجمع والترتيب، كانت هذه الوريقات التي تشير إلى بعض ملامح ومعالم منهج طلب العلوم الشرعية، كما بينها علماء الملة وفقهاء الإسلام في القديم والحديث.

أولا: البدء بالكتاب العزيز

     ابتداء التعليم بكتاب الله العزيز الحكيم تلقنا واستحضارا، ثم تدبرا في معانيه وتفسيرا في علومه، أمر قد اهتم به المتقدمون، وسلك على منوالهم المتأخرون، واحتاج إليه المبتدئون في أوان الشروع في العلوم، حتى تبحر فيه الماهرون قبل تدوين الفنون، فلن يغفل الطالب عن هذا المسلك الرضي والمنهج السوي. (حاشية تذكرة السامع والمتكلم، ص:113).

فعلى طالب العلم أن يبتدئ أولا بالقرآن الكريم تلاوة وتجويدا وحفظا مع الاطلاع على معاني آياته، قبل أن يشتغل بأي علم آخر.

قال ابن أبي حاتم: لم يدعني أبي أطلب الحديث حتى قرأت القرآن على الفضل بن شاذان.

وقال الوليد بن مسلم: كنا إذا جالسنا الأوزاعي فرأى فينا حدثا -أي صغيرا في السن- قال: أي غلام قرأت القرآن؟ فإن قال نعم قال: اقرأ {يوصيكم الله في أولادكم}، وإن قال: لا، قال له: تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم.

وكان يحيى بن حيان إذا جاءه غلام أمرد استقرأه رأس سبعين آية من الأعراف ورأس سبعين آية من يوسف وأول الحديد فإن قرأه حدث وإلا لم يحدثه.

قال ابن عبدالبر: «فأول العلم حفظ كتاب الله -عز وجل- وتفهمه وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه، ولا أقول إن حفظه كله فرض ولكن أقول: إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالما ليس من باب الفرض» (الجامع:167/2).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك