نظرة تحليلية لحادثة تغيير القبلة في صدر الإسلام (3) حكم تكليم المصلي أثناء الصلاة
استكمالا لما بدأنا الحديث عنه من العبر والعظات في حادثة تغيير القبلة في صدر الإسلام نقول: إن الله -تبارك وتعالى- قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم - في محكم آياته: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها}. ولما رأى -سبحانه- حب نبيه - صلى الله عليه وسلم - ورغبته في استقبال البيت الحرام استجاب الله له، وحوله إلى البيت العتيق، واليوم نتكلم عن أحكام القبلة فنقول: قال -تعالى-: {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}، هذه الآية من أدلة وجوب استقبال القبلة في الصلاة، وشهد من السنة لهذا قوله -صلى الله عليه وسلم -: «فإذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبِّر...» وهذا مما أجمعت عليه الأمة، والمشاهد للكعبة يجب عليه أن يستقبل عينها، وغير المشاهد لها عليه أن يستقبل جهتها؛ لأن هذا هو المقدور عليه، ولا يسقط استقبالها عن المكلف إلا في حالات منها:
عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح؛ إذ جاءهم آت؛ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة». قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: فيه جواز تعليم من ليس في الصلاة لمن هو فيها، وأن استماع المصلي لكلام من ليس في الصلاة لا يفسد صلاته»ا.هـ. والكلام المقصود ما دعت له الضرورة، مثل تحذيره من خطر أو تعليمه، أما ما سوى ذلك مما لا ينبغي أن يفعل فلا؛ لأن فيه تشويشا على المصلي، وورد النهي عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم : «ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة».
مخالفة الكفار وحرمة التشبه بهم
من قواعد الشريعة الغراء، أنها حرمت على أتباعها التشبه بالكفار في عباداتهم وأعيادهم وزيهم الخاص بهم؛ ومما يستفاد من حادث تغيير القبلة، تقرير لهذه القاعدة العظيمة التي غفل عنها المسلمون، وهذا الذي فهمه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-؛ حيث قال: ومن هذا الباب قوله -سبحانه-: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(البقرة: 145-150).
قال غير واحد من السلف: معناه لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة؛ فيقولوا: قد وافقونا في قبلتنا؛ فيوشك أن يوافقونا في ديننا؛ فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة؛ إذ الحجة اسم لكل ما يحتج به من حق وباطل {إلا الذين ظلموا منهم} وهم قريش؛ فإنهم يقولون: عادوا إلى قبلتنا؛ فيوشك أن يعودوا إلى ديننا.
فبين -سبحانه- أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها مخالفة الكافرين في قبلتهم؛ ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل، ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة؛ فإن الكافر إذا اتبع في شيء من أمره كان له من الحجة مثل ما كان، أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة.ا.هـ
الناسخ لا يكون خطابا في حق من لم يبلغه
عرفنا مما سبق أن أهل قباء لم يبلغهم النسخ إلا في صلاة الفجر؛ فهم صلوا العصر والمغرب والعشاء إلى بيت المقدس، ولم يؤمروا بإعادة الصلاة التي صلوها لغير القبلة الجديدة؛ لأن الناسخ لم يبلغهم، من هذا استخلص علماؤنا فائدة. قال القرطبي -رحمه الله-: إن من لم يبلغه الناسخ إنه متعبد بالحكم الأول.ا.هـ، وكذلك قال الحافظ: إن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه؛ لأن أهل قباء لم يؤمروا بالإعادة، مع كون الأمر باستقبال الكعبة وقع قبل صلاتهم تلك بصلوات، واستنبط منه الطحاوي أن من لم يبلغه الدعوة ولم يمكنه استعلام ذلك فالفرض غير لازم له.ا.هـ.
وعلى هذه الفائدة المستخلصة مما سبق، تبنى مسائل كما ذكر القرطبي مثل:
- تبني مسألة الوكيل في تصرفه بعد عزل موكله له، أو موته، وقبل علمه بذلك.
- كذلك تصرف المقارض.
- والحاكم إذا مات من ولاه أو عزل، إلى غيرها من المسائل التي على هذا.
ويرجح القرطبي بناء على هذه القاعدة المستخلصة مما سبق، أن الصحيح أن ما فعله كل واحد من هؤلاء ينفذ فعله ولا يرد حكمه.
نشر العلم في الناس
وأنا أقرأ هذا المقطع من هذا الحديث، المتعلق بأحداث تغيير القبلة، قال البراء: فخرج رجل ممن كان صلى معه؛ فمر على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة؛ فداروا كما هم قبل البيت، أتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نضر الله عبدا سمع مقالتي، فوعاها، ثم بلغها عني»، وحديث: «بلغوا عني ولو آية»؛ فهذا الصحابي الجليل بفعله هذا، يطبق ما علم من نصوص السنة، وهكذا كانوا -رضي الله عنهم- قدوة صالحة في كل ميدان، فهل يعي طلبة العلم هذا ويقومون بما أمرهم الله من تبليغ ما لديهم من علم للعامة حتى يستقيم أمر الأمة؟
المراد بهذا الأسلوب القرآني
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
يلاحظ القارئ لهذه الآيات، التي تتكلم عن قبلة المسلمين، أن فيها تكرارا؛ فما المقصود من هذا؟ قال بعض المفسرين: الغاية منه تأكيد أمر استقبال القبلة؛ لأن أمرها كان صعبا على نفوس بعضهم؛ فأكد الأمر ليرى المكلفون الاهتمام به، وبهذا يخفف هذا الأمر على نفوسهم وتسكن. وهذا الأسلوب متبع في كتاب الله -تعالى- في أكثر من موضع، والغاية منه التأكيد على هذه القضية المعينة، وترسيخها في النفوس، وبيان أهميتها، وهذا ما أميل له، وسئل جعفر بن محمد، ما معنى تكرير القصص في القرآن؟ فقال: علم الله أن كل الناس لا يحفظ القرآن؛ فلو لم تكن القصة مكررة لجاز أن تكون عند بعض الناس ولا تكون عند البعض فكررت لتكون عند من حفظ البعض.ا.هـ. قال آخرون: أراد بالأمر الأول ول وجهك شطر الكعبة، أي عاينها إذا صليت تلقاءها. وأراد بقوله: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} خطاب لمعاشر المسلمين في جميع مساجد المدينة بأن يتجهوا إلى البيت العتيق.
وأراد بقوله: {ومن حيث خرجت} وجوب استقبال القبلة في الأسفار.
ويرى القرطبي -رحمه الله- القول الثاني حسن؛ لأن فيه حمل كل آية على فائدة.
لاتوجد تعليقات