رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: فضيلة الشيخ د. مشهور حسن آل سلمان 20 أغسطس، 2017 0 تعليق

نظرة تأصيلية في التصفية والتربية الإيمانية (2) الشعار السلفي في عملية التغيير

ذكرنا في المقال السابق أن من أهم الواجبات الملقاة على عاتق العلماء وطلبة العلم النبهاء (التأصيل العلمي) ولا سيما في تلك القضايا التي تخص المسلمين بعامة، وقلنا: إن من أهم القضايا التي تحتاج إلى تأصيل، ذلك الشعار الذي يكثر دورانه على الألسنة، ولا سيما من قبل إخواننا السلفيين –حياهم الله وبياهم، وأكثر منهم، وبارك في جهودهم وعلمهم- وهو: (التصفية والتربية)، كما ذكرنا أن (العلم) و(التزكية) هما المهمتان اللتان دعا بهما إبراهيم -عليه السلام-، واستجاب الله له، وقلنا: إن العلم يأتي بثماره وأكله لمّا يزكي صاحب العلم نفسه، ولا يتم ذلك -على وجه الكمال- إلا بقواعده وأحكامه، ولابد من مراعاة أمور عدة منهجية مهمة، لا ينبغي ألبتة أن تغيب عن طلبة العلم؛ ونستكمل تلك الأمور في هذه المقالة:

وقد استدل الجلال في (نظام الفصول) على أن الأصل هو الفسق بقوله -تعالى-: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}.

     قلت: ولا يخفى أنه غير صحيح؛ إذ المراد من الآيات أن المؤمنين قليل بالنسبة إلى الكفار، كما يدل عليه سياق الآيات، لا أن المراد أن المؤمنين قليل بالنسبة إلى المسلمين الذين ليسوا بعدول، وكذلك تفريعه عليه بأنه يحمل الفرد المجهول على الأعم الأغلب، وهو أنه يحمل المسلم المجهول العدالة على الفسق غير صحيح؛ لأنه ليس لنا أن نفسِّق مسلماً مجهول العدالة لأجل أن الأغلب الفسق؛ لأن هذا تفسيق بغير دليل من نص أو قياس مع قولهم: «لا تفسيق إلا بقاطع»، بل نقول: يبقى المسلم المجهول العدالة على الاحتمال، لا نرد خبره حكماً بفسقه، ولا نقبله حكماً بعدالته، بل يبقى على الاحتمال حتى يُبحث عنه ويُتبين أي الأمرين يتصف به، وينبغي أن يكون هذا مراد من يقول بأن الأصل الفسق، وقول المصنف: إن الأصل العدالة، يقتضي أنه لا يحتاج إلى التعديل؛ لأنه لا حاجة إليه؛ إذ كون ذلك هو الأصل فيكون كافياً».

قلت: هذا الذي اختاره الصنعاني هو الحق بلا مراء، ولعل في هذا البيان يزول الإشكال الواقع هذه الأيام بين طلبة العلم في هذه المسألة، والله المستعان.

خصلتان لا تجتمعان في منافق

- رابعًا: قال - صلى الله عليه وسلم -: «خصلتان لا تجتمعان في منافق: حسن سمت، ولا فقه في الدين»، فحسن السمت مأخوذ من {يُزَكّيهِم}، والفقه في الدين مأخوذ من {يُعَلِّمُهُم}، فالنتيجة أنه لا يَبرأ الإنسان من النفاق حتى يحقق في نفسه شيئاً من مهمتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وهذا على وجه الوجوب العيني.

لا سعادة للأمة إلا بتحقيق خصلتين

- خامسًا: بل لا سعادة للأمة بجملتها إلا إن حققت هاتين الخصلتين على وجه التمام والكمال، فتمام العلم وكماله (اليقين)، وتمام التزكية وكمالها (الصبر) بجميع أنواعه:

1- الصبر على فعل الطاعات.

2- الصبر عن المعاصي والمنكرات.

3- الصبر في سبيل الدعوة إلى الله -تعالى- والإصلاح.

4- الصبر على قضاء الله وقدره.

     ولا نبعد عن الحقيقة إن قررنا هنا أن سبب تخبُّط الناس وضياعهم هو عدم تحقق هذين الأمرين فيهم على وجه كفائي بالقدر اللازم والواجب، والواجب على الأمة أن يكون فيها ورثة للرسول -صلى الله عليه وسلم -؛ يعملون بمهمته: يزكّون ويعلِّمون، وحينئذ يفرح المؤمنون بنصر الله -تعالى-.

     وأئمة الدين العلماء العاملون الربانيون هم من تحققت فيهم أعلى وأغلى درجات (العلم) و(التزكية)، وهي -كما قررنا- الصبر واليقين، قال الله -تعالى-: {وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً}؛ أي: أئمة الدين {لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُون}، فحصّلوا التزكية والعلم على وجه التمام والكمال.

تزكية وتعديل الصحابة -رضوان بالله عليهم

     وأخيراً في الآيات السابقة جميعاً، ولا سيما الآية التي في سورة الصف، تزكية وتعديل ضمني لجميع من استجاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته؛ وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قام بمهمَّتَيه، ووفَّقه الله -عز وجل- على وفق سنته الكونية والشرعية لذلك، وأخرج من آمن به واتبعه من الضلال، ولا يكون ذلك كذلك إلا بتحقق التزكية والعلم فيهم ولديهم، قال ابن القيم في تفسير آية الصف: «فالأولون: هم الذين أدركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وصحبوه. والآخرون: هم الذين لم يلحقوهم؛ وهم: كل من بعدهم على منهجهم إلى يوم القيامة، فيكون التأخر وعدم اللحاق في الفضل والرتبة، بل هم دونهم فيكون عدم اللحاق في الرتبة، والقولان كالمتلازمين، فإن من بعدهم لا يلحقون بهم لا في الفضل ولا في الزمان، فهؤلاء الصنفان هم السعداء. وأما من لم يقبل هدى الله الذي بعث به رسوله ولم يرفع به رأساً فهو من الصنف الثالث؛ وهم: {الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}».

والخلاصة: أن الله -عز وجل- كما اختار نبيَّه من بين سائر الناس، اختار أصحابه كذلك، «فامتن عليهم -سبحانه- بأن علمهم بعد الجهل، وهداهم بعد الضلالة، ويا لها من منّة عظيمة فاتت المنن، وجلّت أن يقدر العباد لها على ثمن».

وبعد:

تبرهن لنا من خلال ما مضى: أن الله -تعالى- جعل الخير كله في (التزكية) و(العلم)، ولكن أنّى للمكلّفين تحصيلهما؟! وما سبب إيجادهما، ولا سيما في زمن غربة الدين؟

     هذا ما نادى به المصلحون من الأولين والآخرين ممن سار على منهج السلف الصالحين، وكان من آخرهم شيخنا المحدث العلامة محمد ناصر الدين بن نوح النجاتي الألباني -رحمه الله تعالى-، وذلك برفعه شعار (التصفية) و(التربية) لإصلاح الأمة، وهذا الشعار فيه وسائل تحقيق (العلم) الصحيح الصافي، الذي من خلاله تتحقق معرفة الإسلام النقيّ الذي أنزله الله على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يكون ذلك إلا بتصفية العلم الشرعي مما علق به من دخل ودخن، وترهات وبدع.

     وكان من أسباب دخول البدع في الشرع الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، والاستدلال بها على أنها مصدر من مصادر التشريع والأحكام، ولذا توجّهت عناية شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- ببيان الصحيح من الضعيف، والسليم من الرديء، وبذل جهداً عظيماً في ذلك، واصل فيه الليل بالنهار، وقضى السنوات، بل العقود التي زادت عن خمسة، بل نافت عنها قليلاً في تحقيق هذا المقصد العظيم، وترجم ذلك في جهود عظيمة، وآثار جليلة، في مشروع كان يطلق عليه (تقريب السنة بين يدي الأمة).

     وكان يستطرد في كثير من الأحايين في بيان الآثار السيئة للأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة في الأمة، وكانت تتجلّى هذه الآثار على وجه جليّ جدّاً في البدع، ولا سيما تلك الشائعة الذائعة، التي لها حراس يحمونها، و(أشخاص) يذبون عنها، ودعاة يقدسونها! ممن انحرفت أصولهم، وزاغت قلوبهم، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فـ(التصفية) بمعناها الشرعي تنقية الإسلام مما ليس منه، ولا سيما التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، ومن أهم الواجبات الشرعية التي تبذل لإقامة الدين.

     وليس المراد من التوحيد: الضوابط المعرفية الذهنية؛ فهي على أهميتها قد تتحصل في العقل ولا تعدو التصور، ولا تؤثر في الإرادة ولا يشعر صاحبها بحلاوة الإيمان، والتقرب الدائم إلى الرحمن، وليس هذا القدر الذي يقنع به المصلحون، وإنما يعملون على تحصيل الزاد المعين بعد الله -عز وجل- على تحمل المشاق والأعباء، بتحقيق الرضا التام بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا.

أخرج مسلم في (صحيحه) رقم (34) بسنده إلى العباس بن عبدالمطلب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا».

فمن لم يجد ويذق طعم الإيمان، ففي رضاه نقص، فاحرص وانتبه وتفقد حالك.

ومجالات التصفية، وميادين التربية كثيرة متشعبة، ولكثير من أئمة الدعوة السابقين واللاحقين والمعاصرين تجارب في ميادينها، يصعب حصرها ويعسر تعدادها في هذا المقام، والله الموفق، لا رب غيره ولا إله سواه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك