رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: ياسر برهامي 18 مايو، 2015 0 تعليق

نصيحة موضوعية في المسألة الجهادية

لن تستطيع دولة أو مجتمع أن ينعم بالاستقرار وفيه عشرات الألوف من السجناء، وهم دائرة متشابكة من الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء والمتعاطفين

 

عندما ظهرت الجماعات التكفيرية في السبعينات من القرن الماضي منذ نحو40 عامًا، كانت حادثة اغتيال الدكتور الذهبي بعد خطفه حادثًا جللًا، هزَّ المجتمع المصري الذي كان غريبًا عليه أمر القتل والاغتيال منذ أمدٍ طويل، كما كان غريبًا عليه فكر التكفير بالدرجة نفسها وربما أشد، وظل الأمر كذلك إلى أن زادت الوتيرة بعد اغتيال السادات وانتشار موجة القتل والتفجير في الثمانينات إلى أواسط التسعينات، ومع ذلك لم تكن تزيد الأحداث عن حادثٍ كل أسابيع عدة أو أشهر عدة، ثم توقفت بدرجة كبيرة، أو كادت أن تقف بالكلية مع المراجعات أي تراجع الجماعات الجهادية عن الإرهاب التي قامت بها الجماعة الإسلامية، ثم تلتها جماعة الجهاد، وظلَّ الأمر كذلك حتى بعد الثورة.

     ولم نكن نسمع عن مثل هذه العمليات إلا واحدة كل أشهر عدة، ثم كانت المصيبة العظيمة في تضاعف هذه العمليات بعد أحداث 30 يونيو و3/7 وفض ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة وما بعدها، ومع تصاعُد الأحداث حولنا في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، كانت الزيادة الهائلة بالنسبة لمجتمعنا وبلادنا، حتى صار عاديًّا أن يقع قتل كل يوم في سيناء، وتفجير وتدمير لمنشآت عامة ومرافق حساسة تؤثر على الشعب المصري كله، ولا بد أن نُقَرِّر جملة من الأمور في معالجة هذه المشكلة المجتمعية الخطيرة:

مسؤولية مشتركة

     إن معالجة مشكلة الإرهاب مسؤولية مشتركة، وليست مسؤولية وزارة الداخلية أو القوات المسلحة وحدها، وليست كذلك مسؤولية الأجهزة الدينية الرسمية كالأزهر والأوقاف وحدها؛ بل هي مسؤولية كل المجتمع متعاونًا في ذلك، يدخل في ذلك الجماعات الإسلامية المعتدلة الرافضة لفكر التكفير والعنف والصدام مع المجتمع، والإعلام الرسمي والخاص من قنوات وصحف ومجلات، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمؤسسة القضائية التي تؤثر أحكامها وتصرفاتها -بلا شك- على هذه الظاهرة زيادة ونقصًا، وكذلك مسؤولية أفراد المجتمع في حواراتهم وتعليقاتهم وسلوكياتهم؛ فإن استشعرنا جميعًا المسؤولية وخطورة الكلمة والفعل في زيادة أو نقص المقتنعين بفكرة الصدام مع المجتمع والقضاء على الدولة، لتغيرت الأمور كثيرًا.

الحجة بالحجة

 إن المعالجة الأمنية المحدودة لا يُمكِن أن تقضي على هذه الظاهرة، بل لا بد من مقاومة الحجة بالحجة، والشبهة بالدليل، والفكرة بالفكرة؛ فالمشكلة تبدأ قبل حمل السلاح، ولا تنتهي معه، ولو بسقوط صاحبه قتيلًا أو جريحًا أو مسجونًا.

فوق القانون

إن تصوُّر بعض أنه وحده القادر على القضاء على الإرهاب، وطلبه مزيدًا من الصلاحيات فوق القانون والمساءلة، ولو تم تسديد الثغرات المحتملة في المساءلة بطريقة قانونية يعلم الجميع وجود تجاوزات فيها؛ هذا مما يضاعف الأزمة ولا يعالجها.

استمرار الظلم

     لن تستطيع دولة أو مجتمع أن ينعم بالاستقرار وفيه عشرات الألوف من السجناء، وهم دائرة متشابكة من الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء والمتعاطفين والمتأثرين بالإعلام المُؤيِّد له ولأمثاله، ولاسيما مع وجود ظلم وتجاوزات وخروقات تثبتها الأجهزة الرسمية، لكن دون أن تعالجها، ودون أن تعطيها حقها، وتقدمها المنظمات الدولية، وأخطر من ذلك تُثْبِتها المشاهدات الواقعية اليومية للمواطنين في أماكن مختلفة من البلاد، فلو بذلت كل ما في وسعك في الإعلام أو البيانات الرسمية لإقناعهم بخلاف ما رأوه وسمعوه وأحسوه لما عُدَّ ذلك شيئًا، فضلًا عما ينشر من الأكاذيب والإشاعات التي تصل إلى عقول الكثيرين من الطيبين وقلوبهم عبر وسائل التواصل؛ فيثمر ذلك كله حالة من الاحتقان، وشعورًا بالاضطهاد، وقناعة لدى الكثيرين بوجود حرب على الإسلام.

تناسب العقوبة

     يسبب ذلك كله حاضنة شعبية ولو ضئيلة أو في مناطق محدودة من المجتمع، لكنها كفيلة بأن تجعل الأزمة مستمرة، بل وتزيد فيها وتحميها؛ فلابد من تضييق دائرة السجناء إلا من لابد حبسه؛ فمن ثبت بالأدلة القاطعة تورطه في جرائم، يجب أن تتناسب العقوبة مع قدر الظلم والجرم، وبعد بذل كل الجهد في التيقُّن من ثبوت الجريمة، وليس بمجرد الظن والاحتياط؛ فإن ذلك يفاقم المشكلة ويضاعفها، وهذه مسؤولية مشتركة بين الأجهزة المعلوماتية بأنواعها، والسلطة القضائية بدرجاتها المختلفة، ولا بد أن نُعمِل جميعًا قاعدة أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولا بد من إعادة النظر في مدِّ أمد الحبس الاحتياطي بلا سقف زمني؛ فإن ذلك أشد من قانون الطوارئ.

     لا بد أن نعمل على إيقاف تمدد دائرة المتعاطفين والمؤيدين للأفكار المنحرفة؛ فإن كثيرًا من المُنفِّذين لعمليات التفجير الانتحارية سنهم أقل من 18 سنة، وهذا يعنى أنهم في بداية الثورة كانوا لا يزالون يلعبون الكرة في الطريق، ثم تحوَّلوا إلى هذا الفكر المنحرف الذي يطلب صاحبه الشهادة في سبيل الله بقتل بني دينه ووطنه وجنسه حسب اعتقاده؛ فالخطوة الأولى وقاية الأجيال الصاعدة من قبول هذه الانحرافات، وهذه هي الخطوة الأساسية في تجديد الخطاب الديني، ليس كما فهمه المغرضون بأنه تعديل الدين نفسه وهدم ثوابته ومصادر تشريعه والتشكيك في العقائد والفقه والتاريخ والسيرة والتفسير والحديث والرموز الدينية عبر التاريخ فضلًا عن الرموز الدينية المعاصرة، بل التجديد هو إخبار لأمر الدين؛ كما قال النبي[: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها». حديث صحيح.

استدراك الأخطاء

     ومن أعظم ذلك استدراك الأخطاء، والبدء في تناول قضية من القضايا؛ فإذا وجدنا فهمًا خطأ لدى الشباب في مسائل التكفير مثلًا، زدنا من جرعة الترهيب من تكفير مسلم بغير بيِّنة، وزدنا من أدلة العُذر بالجهل والتأويل وموانع التكفير وتوضيح شروطه، ومن يتولاه من أهل العلم والقضاء الشرعي، وليس العوام والجُهَّال من مُدَّعِي العلم، وإذا وجدنا خللًا في مسائل الولاء والبراء مثلًا، زدنا من جرعة توضيح معانيه وأقسام كل معنى، وما يكون مُكفِّرًا، وما لا يكون مُكفِّرًا، وبيان الحد الفاصل بين الكفر والمعصية في كل معنى، وكذلك بيان ما يجوز من التعامل مع الكفار ولا يعد المتعامل به مواليًا لهم، وحقيقة ما أمرنا به من البر والقسط مع من لم يقاتلنا في الدين، دون ما نهينا عنه من المحبة والموالاة، وليس بهدم القضية بأسرها أو السخرية منها، أو تصويب ملل الكفار وأديانهم، واذا رأينا خللًا في فهم قضايا الجهاد ودار الإسلام ودار الكفر وأحكام الأسرى ونحو ذلك، زدنا من جرعة التوضيح والتفهيم لهذه المسائل بكلام العلماء، وتوضيح أنواع العهود مع الكفار، وتحريم ظلم المعاهد، فضلًا عن قتله والتمثيل به، وأحكام أهل البغي، وحدود التعامل معهم، وليس بسبِّ العلماء الذين تكلموا في هذه الأبواب بزعم أنهم هم أسباب الإرهاب ومرجعيته، بل من أهم الأمور توضيح كلام العلماء بكلامهم، وشرح مذاهبهم بتوضيحاتهم، ولن يحصل ذلك إلا من دارسٍ مُتَخَصِّصٍ في مذاهبهم، ولاسيما من يحتج بكلامهم المخالفون كشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام محمد بن عبد الوهاب وعلماء المذاهب الأربعة، أما سبهم وشتمهم والطعن فيهم «وانتهاك عرض التراث» فلن يزيد الأمر إلا سوءًا، بل هذا أحد أسباب توسيع دائرة المنحرفين.

الهجمة على الثوابت

     وأنا لا أشك أن الهجمة على الثوابت الإسلامية والرموز والهيئات الشرعية الرسمية وغير الرسمية، هي من أعظم أسباب اقتناع الكثير من الشباب بأن الدولة تُحارب الإسلام، وهو لا يفرق بين ما تقدر عليه الدولة وبين ما لا تقدر عليه، وبين ما يمثلها وما لا يمثلها، بل الكل محسوب على الرئيس والجيش والداخلية والنظام القادر على منع كل شيء والسماح بكل شيء في ظنِّهم، ولذلك إذا قضت القوات المنوطة بمكافحة الإرهاب على مئات البؤر وعشرات الأفراد، إذا بنا أمام دائرة أكثر وأكثر؛ فإذا قُتِل واحد استعدينا غيره عشرة، وإذا دمرنا مكانًا وجدنا بدلًا منه عشرات، واذا حبسنا آلافًا أوجدنا مئات الألوف خارج الأسوار، ودخلنا في دائرة مفرغة مفزعة، لا يُمكن أن يستقر معها الوطن والمجتمع.

تمدد الإنحراف

فلنبدأ بإغلاق دائرة تمدُّد الانحراف، ثم بعد ذلك مواجهة المنحرفين أنفسهم بالفكر؛ فإنهم لا يثبتون أمام الحجة، فهنا تضيق دائرة الخطر إلى أقل قدر ممكن لا تستطيع الأجهزة أن تتعامل معها دون أن يكلفها ما لا تطيق ثم تلومها على التقصير.

     ولا بد كذلك من معالجة أخطاء الممارسة عمليًّا لا نظريًّا أو إعلاميًّا؛ فإذا وُجِد من قُتِل أو أصيب خطأً؛ بادرنا إلى تعويضه وتعويض أهله، وإذا قُصفت بيوتًا لأبرياء بادرنا إلى إصلاحها، وإذا أخرجنا إنسانًا من داره لضرورة؛ فلا بد أن ننقله إلى مسكن ملائم نوفره له قبل إخراجه، وإذا تهدم مسجد أو مدرسة أو معهد بادرنا إلى بنائها من جديد؛ لنحرم الإرهابيين من فرصة استغلال الموقف نحو دعم فكرتهم في أن الدولة لا تعبأ بدماء الأبرياء وحرمانهم، بل تحارب الدين وتريد نقضه، وإذا وجدنا محبوسًا تبيَّنت براءته؛ فلا بد من تعويضه واستسماحه قبل أن يأتي يوم لا ظلم فيه، ولا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

استيعاب المخالف

      ضرورة التأكيد في وسائل التعليم والإعلام استيعاب المخالف والتعايش معه طالما قَبِلَ التعايش، وإحياء فقه الموازنات والمصالح والمفاسد، والنظر إلى المآلات، وبيان ما يجب عند القدرة وما يجوز عند العجز، مع ضرورة نشر العلم لا محاربته والتضييق عليه -نعم لا بد من التخصص- لكنه ليس قاصرًا على الوظائف الرسمية والشهادات الحكومية؛ فالعالم العربي والإسلامي به آلاف الجامعات والمدارس والمعاهد من يتصور إقصاءها جميعًا عدا هيئته ومذهبه بزعم محاربة الإرهاب؟ وإن وجد المخول بذلك فهو مع دهمه يحقق أعظم أهداف الإرهابيين الذين لن يتوقفوا بإيقافهم ومنعهم، بل سيتحولون تحت الأرض فتتضاعف المشكلة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك