رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل رمضان 3 ديسمبر، 2019 0 تعليق

ندوة أقامها مركز ابن خلدون للدراسات الاستراتيجية – وقفة نقدية مع التيارات الصدامية (2)


استكمالا لما بدأنا عرضه في العدد الماضي لمحاضرة وقفة مع التيارات الصدامية التي أقامها مركز ابن خلدون للدراسات الاستراتيجية ضمن الملتقى العلمي الذي استضاف فيه الباحث في القضايا الفكرية والمنهجية م. أحمد الشحات؛ حيث تعرض الشحات في تلك المحاضرة لتأثير التيارات الصدامية على واقع الدعوة الإسلامية وواقع الأمة، وذكر أن الدعوة السلفية واجهت هذه التيارات بالوسائل والسبل العلمية والمنهجية، ثم ذكر تاريخ ظهور هذه التيارات، واليوم نستكمل هذا العرض.

أهمية دراسة قضية الإيمان والكفر

     أكد الشحات على أهمية دراسة قضايا الإيمان والكفر؛ حيث تعد بيت القصيد فيما يسعى إليه المكلف من ضبط علمي ومنهجي، فيما يتعلق بقواعد الحكم على الناس؛ لأنها البوصلة التي توجِّه صاحبها إلى الطريق الصحيح، إذا كانت موافقة للكتاب والسنة وفهم سلف الأمة، كما أنها تكون سببًا في انحراف وجهته إلى مسالك مضلة، وشُعب مهلكة إذا تعلمها على يد أهل البدع والأهواء.

أثر خطير

     ثم أكد أن لقضية الإيمان والكفر أثرًا خطيرًا على المسلمين عبر العصور؛ حيث سُفكت بسبب الخلل فيها دماء، وانتُهكت حرمات، وفي العصر الحاضر أيضا كان لها أثرها الخطير على الصحوة الإسلامية؛ إذ كانت بعض الكتابات -مثل كتابات أبي الأعلي المودودي وسيد قطب ومحمد قطب- التي تصدى أصحابها للدفاع عن الإسلام وأحكامه، في مواجهة هجمة التغريب الشرسة، ومحاولات المنافقين الزنادقة أذناب أعداء الإسلام المستخربين -الذين سماهم الناس المستعمرين- فصل الدين عن الحياة كلها وعن الدولة ونظامها وأنظمة الحياة في المجتمع، كانت هذه الكتابات -رغم فائدتها الكبيرة فيما ذكرت، التي وجدت بسببها القبول لدى قطاعات عريضة من المسلمين- كان لها أثرٌ سلبيٌّ على هذه القضية؛ فأصحابها تصدوا لقضايا الإيمان والكفر، والحكم على الناس بغير الأسلوب العلمي الذي يضع الحدود، ويضع الفواصل، ويوضِّح المسائل بالأدلة من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها وعلمائها؛ فاستعملوا الألفاظ المجملة والموهمة.

أول خلاف بين أهل القبلة

     وأضاف، مما يؤكد على خطورة القضية وعمق نشأتها في التاريخ أن أول خلاف بين أهل القبلة، كان في مسائل الإيمان على يد الخوارج المارقين الذين كفَّروا مرتكب الكبيرة، وسلُّوا سيوفهم على أهل القبلة؛ فقتلوا أهل الإسلام وأمسكوا عن قتل أهل الكفر؛ ومما يثير الانتباه حقًا أنه مع انتشار الصحوة المباركة، راحت هذه البدع تطل بوجهها القبيح من جديد؛ فنشطت بقايا الفرق الضالة، ونبتت بذرة الخوارج كجماعة التكفير والهجرة، والتوقف والتبين، ومع تفشِّي هذه الأفكار المنحرفة والأقوال الزائغة، حدث خلل لدى بعض أبناء أهل السنة والجماعة في ضوابط تكفير المُعين؛حيث لم يراعوا هذه الضوابط، فوقعوا في شراك التكفير بغير بينة.

الخطاب التكفيري العنيف

ثم أكد الشحات أنه بعد ثورات الربيع العربي، أصبح الخطاب التكفيري العنيف يؤثر في مئات الألوف من الرجال والنساء، ولاسيما الشباب - بدلًا من العشرات، كما كان في السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي-، وبين أن عامة هؤلاء الشباب لم يدرسوا مسائل الإيمان والكفر ولا غيرها من قضايا المنهج؛ فصار الخطر داهمًا، وصار الاتهام بالكفر - الذي حذَّر منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال:- «لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، ومن قال لأخيه: يا كافر؛ فهو كقتله»- سهلًا عند الكثيرين؛ فأقدموا على ما هو أعظم من الكبائر الظاهرة بالظن والاحتمال وتجرد العواطف الملتهبة في ظل الأحداث الهائلة التي تمر بها الأمة».

محتوى الدراسة

ثم أشار الشحات إلى أنه بالدراسة التفصيلية لهذه القضية، يتعلم الدارس جملة من القضايا الخطيرة، التي لا يستقيم له فهمها إلا عن طريق ضبط مفاهيمها، ومعرفة قيودها وشروطها ولوازمها:-

1) معرفة المصطلحات الأساسية في ذلك، مثل: (الكفر، الظلم، الفسق، النفاق، الجاهلية). ويعرف مفهوم الإيمان عند أهل السنة وغيرهم، وكذلك القواعد الصحيحة في الإيمان، وشعب الإيمان ودرجة كل شعبة.

2) معرفة شروط لا إله إلا الله، وما يثبت به عقد الإسلام.

3) معرفة أنواع الكفر الأكبر، صور الكفر الأصغر، شروط تكفير المعين.

4) معرفة نواقض الإيمان الاعتقادية والقولية والعملية، وأحكام الردة وأسباب الكفر، والتلازم بين الظاهر والباطن.

5) معرفة حكم مرتكب الكبيرة وتفاوت مراتب الذنوب، وحكم تارك المباني الأربعة.

6) معرفة الضبط الصحيح لمصطلح تارك جنس العمل، وحكم من مات على الشرك بعد بلوغ الرسالة.

7) معرفة الموقف من تكفير أهل البدع، مثل الخوارج والمعتزلة.

8) معرفة الفرق المخالفة لأهل السنة قديمًا مثل الخوارج، والمعتزلة، والمرجئة، وسمات كل فرقة من هذه الفرق وخصائصها، والفرق الحديثة المخالفة لعقيدة أهل السنة، مثل جماعات التكفير، والتوقف والتبين، والقطبية.

أهمية دراسة قضية العذر بالجهل

     وعن قضية العذر بالجهل قال الشحات: من خلال دراسة أصول أهل السنة والجماعة في قضية التكفير، تعرف أنهم يفرِّقون بين الكفر الأكبر والأصغر؛ فالكفر الأكبر مخرج من ملة الإسلام، محبط للعمل، مستوجب للخلود في النار، وتجري على صاحبه في الدنيا أحكام الكفار إن كان كفره أصليًا، وأحكام الردة لمن كان كفره طارئًا، وفي الآخرة هو من المخلدين في النار، طالما مات على الكفر، أما الكفر الأصغر فلا يُخرج عن الملة، وإنما يدل على نقصان الإيمان الواجب عند العبد، مع بقاء أصل الايمان، وهذا لا يُخرج من الملة في الدنيا، ولا يُوجب الخلود في النار في الآخرة.

عصاة الموحدين

     وبين الشحات أن أهل السنة والجماعة لا يُخرجون عصاة الموحدين من الإسلام، ولكنهم لا يحكمون لهم بالإيمان الكامل، أو النجاة من الوعيد مطلقا، لورود الأدلة الصحيحة على الوعيد الشديد في كثير من المعاصي والذنوب؛ فأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن فسَّاق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلَّدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته.

خصائص أهل السنة والجماعة

     وأضاف، من أهم خصائص أهل السنة والجماعة، أنهم يفرقون بين كفر النوع وكفر العين؛ فيطلقون الكفر على العموم وصفًا للفعل، أما المعين -وهو الفاعل- فلا يكفِّرونه مع وقوع الكفر منه، إلا بعد أن تثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفرًا؛ فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويُقال: مَن قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يُحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها».

     ويقول أيضًا:  «فتكفير (المعين) من هؤلاء الجهال وأمثالهم؛ -بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار- لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية، التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر، وهكذا الكلام في تكفير المعينين جميعهم، مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض؛ فليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبيَّن له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة».

شروط التكفير

     وبين الشحات الشروط التي يجب أن تثبت في حق المعين وذكر منها: العلم، والعقل، والقصد، والتذكر، والموانع، منها: الجهل والخطأ، والنسيان، والإكراه، والتأويل، وبالتالي؛ فالحكم على المعين بالتكفير يكون بعد التأكد من قيام الحجة عليه، وانتفاء أي عذر من الأعذار الشرعية المانعة من تكفيره؛ فالجاهل الذي لم يبلغه الخطاب الشرعي مرفوع عنه الإثم والعقوبة، كما في حديث الرجل الذي قال: «إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذرُّوني في اليم؛ فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين؛ ففعلوا به ذلك؛ فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر له».

     يقول ابن تيمية: «فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذُرِّي، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه؛ فغفر له بذلك، والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا».

تفاوت العلم في الحكم

     وأكد الشحات على أن العلماء ينصون على أثر تفاوت العلم في الحكم على المعين، وضربوا لذلك مثالًا بحداثة العهد بالإسلام وبالبادية البعيدة، يقول ابن تيمية: «وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات حتى لا يبقى من يُبلِّغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة؛ فلا يعلم كثيرًا مما يبعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر؛ ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام؛ فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة؛ فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول؛ ولهذا جاء في الحديث عن حذيفة ابن اليمان مرفوعاً: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسري على كتاب الله -عز وجل- في ليلة لا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس, الشيخ الكبير، والمرأة العجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة (لا إله إلا الله)؛ فنحن نقولها؛ فقال صلة بن زفر لحذيفة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون صلاة، ولا صياما، ولا صدقة، ولا نسكا؟؛ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها ثلاثاً كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة؛ فقال: يا صلة تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار». (رواه ابن ماجة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي).

حكم المعين

     وذكر الشحات أن قضية العذر بالجهل تبحث في حكم المعين الذي ثبت له عقد الإسلام بيقين، ثم أتى كفرًا أو شركًا جاهلًا بالحكم وليس إعراضًا عن الشرع؛ فهذا المعين لا يُحكم بكفره إلا بعد إزالة شبهته وبيان الحجج والأدلة الواضحة من الكتاب والسنة بطريقة يفهمها مثله؛ فإذا رجع واستغفر تاب الله عليه، وإذا أصرَّ على ما يقوم به من الشرك بعد ظهور الأدلة؛ فيحكم عليه حينئذ بالكفر.

مراتب العذر بالجهل

ثم ذكر الشحات مراتب العذر بالجهل في قضية العذر بالجهل وهي:

1) فمنه ما يكون صاحبه معذورًا عذرًا كاملًا؛ فلا يكون عليه إثم ولا يلحق به تكفير ولا يستحق عذابًا في الآخرة، وهو من لم يقصِّر في طلب العلم الواجب، بل بذل وسعه واجتهد في معرفة الحق - بنفسه أو بسؤال أهل العلم.

2) ومنه ما يكون صاحبه معذورًا في عدم التكفير، لكنه يستحق العذاب في الآخرة؛ وذلك بسبب التقصير في طلب العلم الواجب.

3) ومنه ما يكون صاحبه معذورًا في الآخرة مع بقاء حكم الكفر عليه في الدنيا، ويكون في الآخرة من أهل الامتحان وهم أهل الفترة الذين لم يدخلوا في الإسلام ولم تبلغهم الدعوة.

4) ومنه ما لا يكون صاحبه معذورًا في الدنيا ولا في الآخرة، كمن أعرض عن فهم الحق بعد بيانه، وكمن ارتكب ما يدل على فساد باطنه مثل إلقاء المصحف في القاذورات عمدًا؛ فمثل ذلك لا تقبل منه دعوى الجهل لقيام الحجة فيه على كل أحد.

محتوى الدراسة في قضية العذر بالجهل

وختم الشحات كلامه في هذه المسألة بالحديث عن محتوى الدراسة التفصيلية للعذر بالجهل قائلاً: يجب أن يتعلم الدارس جملة من القضايا منها:

1) أدلة أهل السنة والجماعة في إثبات العذر بالجهل من الكتاب والسنة والإجماع.

2) الفرق بين جهل العاقبة وجهل الإعراض والجهل الناشيء عن عدم البلاغ.

3) الفرق بين المعلوم من الدين بالضرورة وبين ما لا يسع المسلم جهله.

4) الفرق بين تحقيق المناط وتنقيح المناط، الفرق بين فهم الحجة وإقامة الحجة.

5) الفرق وبين الاستتابة وإقامة الحجة، والفرق بين ثبوت العصمة واستمرارها.

6) معرفة صور قيام الحجة العامة والتفصيلية.

7) معرفة حكم الجهل الذي يمكن للمكلف دفعه وضوابطه.

8) معرفة شبهات منكري العذر بالجهل والرد عليها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك