ندوة أقامها مركز ابن خلدون للدراسات الاستراتيجية- وقفة نقدية مع التيارات الصدامية (3)
استكمالاً لما بدأنا عرضه في العدد الماضي لمحاضرة (وقفة مع التيارات الصدامية)، التي أقامها مركز ابن خلدون للدراسات الاستراتيجية، ضمن الملتقى العلمي الذي استضاف فيه الباحث في القضايا الفكرية والمنهجية م. أحمد الشحات، وعرضنا في الحلقة الماضية كلام الشحات عن قضايا الكفر والإيمان، وقضية العذر بالجهل، واليوم نستعرض ما قاله في قضية الحكم بغير ما أنزل الله، وقضية الولاء والبراء.
أهمية دراسة قضية الحكم بغير ما أنزل الله
وعن أهمية دراسة قضية الحكم بغير ما أنزل الله قال الشحات: الحكم بما أنزل الله من أصول التوحيد والإيمان؛ فهو يندرج تحت توحيد الأسماء والصفات، يقول الله -تعالى-: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}(الأنعام: ٥٧)، ويدخل في توحيد الربوبية؛ لأنه حق خالص لله -تعالى- وفعل من أفعاله، لا ينازعه فيه أحد؛ فمن ادعى هذا الحق لأحد من دون الله؛ فقد اتخذه ربًا من دون الله، قال -تعالى-: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }(التوبة: ٣١)، وعن عدي بن حاتم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية؛ فقال: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ».
توحيد الألوهية
وبين الشحات أن هذه القضية تدخل ضمن توحيد الألوهية؛ إذ إن الله قد أمر بالتحاكم إلى شرعه؛ فهو عبادة لا تصرف إلا لله؛ فمن أعرض عن حكم الله متبعًا شرائع الشياطين وأهواء البشر؛ فقد أشرك في العبادة، كما قال -تعالى-:{وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (الأنعام: ١٢١)، وقال -تعالى-:{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(المائدة: ٤٤)، وكل تحاكم إلى غير شرع الله؛ فهو تحاكم إلى الطاغوت، يقول -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا}(النساء: ٦٠)؛ فالكفر بالطاغوت الذي صرَّح الله بأنه أمرهم به في هذه الآية شرط في الإيمان، كما بيَّنه -تعالى- في قوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(البقرة: ٢٥٦)؛ فيفهم منه أن من لم يكفر بالطاغوت لم يتمسك بالعروة الوثقى، ومن لم يستمسك بها؛ فهو مرتد مع الهالكين.
مقتضى -رحمة الله- تعالى
يقول الشيخ ابن باز -رحمه الله-: «وإذا كان من مقتضى رحمته وحكمته -سبحانه وتعالى- أن يكون التحاكم بين العباد بشرعه ووحيه؛ لأنه -سبحانه- المنزَّه عما يصيب البشر من الضعف، والهوى والعجز والجهل؛ فهو -سبحانه- الحكيم العليم اللطيف الخبير، يعلم أحوال عباده وما يصلحهم، وما يصلح لهم في حاضرهم ومستقبلهم، ومن تمام رحمته أن تولى الفصل بينهم في المنازعات، والخصومات، وشؤون الحياة؛ ليتحقق لهم العدل والخير والسعادة، بل والرضا والاطمئنان النفسي، والراحة القلبية؛ ذلك أن العبد إذا علم أن الحكم الصادر في قضية يخاصم فيها هو حكم الله الخالق العليم الخبير، قبل ورضي وسلم، وحتى ولو كان الحكم خلاف ما يهوى ويريد، بخلاف ما إذا علم أن الحكم صادر من بشر مثله، لهم أهواؤهم وشهواتهم؛ فإنه لا يرضى ويستمر في المطالبة والمخاصمة؛ ولذلك لا ينقطع النزاع، ويدوم الخلاف».
الكفر الأكبر والأصغر
وأكد الشحات أن من أهم ما يجب أن يُعتنى به في دراسة هذه القضية، التفريق بين الكفر الأكبر والأصغر؛ لأن الحاكمية أصبحت عند كثير من جماعات التكفير، والصدام بوابة لتكفير الحكام ومؤسسات الحكم والأفراد العاملين فيها، بل وتكفير المجتمعات، وأفراد الشعب ممن يزعمون أنهم راضون، أو موافقون على هذا الكفر، وعلى الرغم من وضوح الفرق بين الكفر الأكبر والأصغر في هذه المسألة عند العلماء قديمًا، مثل ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وغيرهم، وحديثاً مثل أحمد شاكر، ومحمد بن إبراهيم، وابن باز، والألباني، وغيرهم، إلا أن جماعات التكفير والعنف لم تأبه لذلك، واعتمدت على آراء مجموعة من الُكتاب المعاصرين، ممن خالفوا منهج أهل السنة والجماعة في هذه القضايا.
حال الحاكم
يقول ابن القيم: «والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرَين، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم؛ فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانًا، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه، مع تيقنه أنه حكم الله؛ فهذا كفر أكبر، وإن جهله وأخطأه؛ فهذا مخطئ، له حكم المخطئين»، يقول ابن تيمية في تفسير قوله -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا}(النساء: ٦٥)؛ فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم؛ فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن، وأما من كان ملتزمًا لحكم الله ورسوله باطنًا وظاهرًا، لكن عصى واتبع هواه؛ فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة، وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله، ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله».
واقع المسلمين اليوم
ثم ذكر الشحات كلام للشيخ ياسر برهامي في هذا الإطار؛ فقال:- «وإذا نظرنا إلى واقع المسلمين اليوم بعد عصور الاحتلال، وعجز كثير من البلاد المستقلة عن أن تعود إلى ما كانت عليه قبل عصور الاحتلال من إقامة الشرع، وإن كانت أكثر دساتيرها تنص على مرجعية الشريعة، لكن بعضًا من الحكام قد لا يهتم وقد لا يحرص، وقد لا يجتهد في إقامة الممكن من الشريعة؛ فيكون آثمًا بما قصَّر فيه، لكن لا يكون كافرًا؛ لأنه يؤصِّل تحكيم الشرع؛ فلا يصلح أبدًا أن يُعمم الحكم بتكفير من أطاعه أو نصره، كما تفعل جماعات التكفير».
أهمية دراسة قضية الولاء والبراء
وعن قضية الولاء والبراء، قال الشحات: بيان قضية الولاء، والبراء، والقيام بها، هو من تحقيق الإيمان بالله -سبحانه-؛ إذ إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، كما قال رسول الله[، ولا يحصل الحب في الله إلا بمعرفة من المؤمن الذي يُحَبُّ في الله؟ ولا يحصل البغض في الله إلا بمعرفة من الكافر الذي يُبغَض في الله؟ وهو تحقيق للإيمان بكتاب الله -عز وجل- الذي فرق بين الناس على أساس الإيمان والكفر، ودعوة الأنبياء والرسل كانت تقوم على بيان الإيمان، وموالاة المؤمنين، والتحذير من الكفر والشرك، وعداوة الكافرين والمشركين؛ لذلك كان معرفة هذه القضية بأدلتها من الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وتطبيقها في الواقع من أعظم أصول العقيدة وأهم مسائلها.
الأصل هو الدين
فالأصل الذي يوالى أو يعادى عليه هو الدين؛ لذا كان مناط التكفير في مسألة الولاء والبراء، هو المعاداة، أو الموالاة على أساس الدين؛ فإذا والى المسلم الكفار محبة ونصرة لدينهم، أو عادى المؤمنين كرهًا لدينهم؛ فهذا هو الذي يُحكم بكفره، أما إذا كانت الموالاة والمعاداة على غير الدين، كالنسب، أو المصلحة، أو القرابة تكون الموالاة في حقِّه محرمة وليست كفرية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة؛ فتكون ذنبًا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرًا، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ}(الممتحنة: 1)، وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبيّ في قصة الإفك؛ فقال: لسعد بن معاذ: كذبت والله؛ لا تقتله ولا تقدر على قتله؛ قالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا، ولكن احتملته الحمية؛ ولهذه الشبهة «سمى عمر حاطبًا منافقًا؛ فقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق؛ فقال صلى الله عليه وسلم : إنه شهد بدرًا»؛ فكان عمر متأولًا في تسميته منافقًا للشبهة التي فعلها».
الجهل غير المعتبر
ثم بين الشحات أن الجهل غير المعتبر في مسائل الموالاة والمعاداة، هو ما كان متعلقًا بلوازم الشهادتين؛ فمن أبغض مسلمًا بسبب إسلامه، أو أحب كافرًا لكفره؛ فهو كافر، أما الجهل المعتبر في ذلك؛ فهو الجهل بالموالاة التي تجوز والتي لا تجوز؛ فمن وقع في هذه الأمور جاهلًا بحرمة الموالاة، أو متأولًا لها، عُذر لجهله ولزم تعليمه وبيان الحق له، ومن هنا تعلم أن قول الجماعات التكفيرية التي تقاتل الجيوش العربية والإسلامية في معظم الدول العربية، من أن كل من انتمى إلى هذه الجيوش، ولبس زيَّ الجيش أو الشرطة، أو عمل بالمصالح الحكومية الحاكمة؛ فإنه قد خرج من الملة، وارتد عن الإسلام؛ بفهمهم الخطأ لقضية الموالاة والنصرة؛ فهذا غلو في التكفير، وخروج في الفهم عن عقيدة أهل السنة والجماعة».
محتوى الدراسة في قضية الحكم بغير ما أنزل الله
1) أنواع الكفر الأكبر، والكفر الأصغر في قضية الحكم، ومعنى التحاكم إلى الطاغوت وأنواعه.
2) الفرق بين الحكم الشرعي والقدري، والفرق بين النظام الشرعي والإداري.
3) الفرق بين كفر النوع والعين، والموقف من القوانين الوضعية.
4) حكم المشاركة السياسية في ظل الأنظمة الوضعية.
5) أثر التقسيم الثلاثي للسلطة بين تنفيذية وتشريعية وقضائية في الحكم على الأنظمة المعاصرة.
محتوى الدراسة في قضية الولاء والبراء
1) معرفة معاني الموالاة، ومعرفة الأمور المختلفة من الموالاة، مثل: المحبة والنصرة والطاعة والمتابعة والمعاونة والمناصحة، والمداهنة، والتشبه بهم والركون إليهم، وتوليتهم وتكثير سوادهم، والمشاركة في الأعياد، وأحكام هذه الأمور.
2) معرفة الأمور التي ليست من الموالاة، مثل البيع، والشراء، والتجارة، والمؤاجرة، ورد السلام، وقبول الهدية، وعيادة المريض، والزواج من الكتابية، وغيرها من صور البر والإحسان.
3) معرفة الانحرافات المعاصرة في فهم قضية الولاء والبراء، التي ترتب عليها التكفير على العموم وبالشبهة.
4) شروط الإكراه المعتبر شرعًا وحكم التقية.
لاتوجد تعليقات