رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أسامة شحادة 19 ديسمبر، 2018 0 تعليق

نحو ثقافة دينية شرعية رشيدة في زمن الشبهات والفتن – 1

 

تكشف المحاولات المتكررة والدائمة والمتغيرة الشكل والأدوات والمسوغات لمصادمة قطعيات الإسلام وثوابته القرآنية أن مزاعم أعداء الإسلام بأن هدفهم تجديد الخطاب الديني، ومحاربة التطرف والغلو، وأنهم لا يسعون لتبديل الدين أو الاعتراض على الثوابت والقطعيات كلها مزاعم كاذبة وشعارات مضللة، فهاهم أولاء يسعون لضرب الإسلام وتفريغه من محتواه بنفي حجية السنة النبوية التشريعية؛ مما يعطل الإسلام.

     وإن مما يحتاجه المسلمون في هذا الزمان هو الحرص على امتلاك ثقافة دينية شرعية رشيدة من مصادر مأمونة، تحصّنهم من مزالق تحريفات الغلو والتطرف الديني والعلماني للإسلام وأحكامه، وأيضاً تحصّنهم من مزالق التمييع للدين وتبديل أحكامه من قِبل أصحاب الأهواء والأغراض من أدعياء العلم والتدين وأصحاب الدعوات الهدامة واللادينية.

 أهم الركائز

     ومن أهم ركائز امتلاك هذه الثقافة الدينية الشرعية الرشيدة فهْم الإسلام بشريعته وعقيدته التي رضيها الله -عز وجل- الخالق لعباده {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3)؛ ولذلك فأي دعوى بأن الدين مسألة ذوق كالفن والأدب وليس له منهج علمي أو معايير موضوعية هي سفسطة خبيثة مقصودة وتستهدف نسف مكانة الدين ومرجعيته في حياة البشر، وأي دعوى بأن هناك أشياء في الدين غير مكتملة، أو أن العصر الحديث يتطلب تبديلا في الدين بخلاف ما كان في عصور سابقة تعد تكذيبا صريحا للقرآن الكريم. 

 ثلاثة مصادر

     وبعد استيعاب هذه الحقيقة يلزم إدراك أن حقيقة الدين يُتوصل لها من خلال ثلاثة مصادر كما يقول الأستاذ بسطامي سعيد في كتابه المتميز (مفهوم تجديد الدين): «إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدَّد مضبوط؛ فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك».

  الثقافة الدينية الرشيدة

والثقافة الدينية الشرعية الرشيدة التي تحصّن المسلم من الشبهات الفكرية العصرية كافة، أو ذات الجذور القديمة، تقوم على إدراك حقيقة دين الإسلام، التي يُتوصل إليها بالأشياء الثلاثة سالفة الذكر.

موثوقية نصوص الوحي

     المصدر الأول لحقائق الدين هو: موثوقية نصوص الوحي التي يقوم الدين عليها؛ إذ إن هذا الدين الذي هو دين كل الأنبياء، يقوم على تلقي الوحي الرباني من قبل الرسل والأنبياء وتبليغه للناس {نَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (النساء: 163)، ولذلك كان من أعظم الظلم والجرائم الكذب على الله -عز وجل- وادّعاء بعض الدجالين النبوة وتلقي الوحي، قال -تعالى-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} (الأنعام: 93).

الرسالة المحمدية

     ولما كان الإسلام والرسالة المحمدية خاتمة الرسالات فقد تكفل الرحمن بحفظها وحفظ وحيها، وهو القرآن الكريم والسنة النبوية لقوله -تعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)، ومن المتفق عليه بين أهل العلم أن السنة النبوية من الذكر الذي نزل من عند الله -عز وجل- وأنها مشمولة بالحفظ الرباني، قال الآمدى في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام): «والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - من قرآن أو من سنة يبين بها القرآن».

 ضبط النص القرآني

     والكلام في موثوقية النص القرآني وضبطه كلام طويل لا يكفيه مقالات مطولة بل كتب ضخمة؛ ولذلك سأكتفي بإشارات تكفي المنصف، وترشد المستكثر لمزيد من البحث والمطالعة، وقد سبق أن كتبتُ مقالات عدة بعنوان (قصة جمع القرآن الكريم)، بيّنت فيها تفاصيل تكوين لجنة علمية لعملية جمع القرآن الكريم في مصحف واحد بعد أن كانت صحفا متفرقة مكتوبة على أشياء مختلفة من الجلد والعظم وعسب النخل والخشب وغيرها، وأن هذه اللجنة كان لها منهج علمي في غاية الدقة والموضوعية في مقارنة المكتوب من القرآن الكريم مع المحفوظ في الصدور، علماً أن الحفظ والثقافة الشفوية هما الأصل في ثقافة العرب وغيرهم من الأمم في ذلك العصر.

 منهج سائد

      والتركيز على موثوقية ضبط القرآن الكريم كان منهجا سائدا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أصحابه -رضوان الله عليهم-؛ فهذا عمر الفاروق حين سمع هشام بن حكيم يقرأ سورة (الفرقان) بخلاف ما حفظها عمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أمسك به من ثيابه وذهب به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني سمعت هذا يقرأ سورة (الفرقان) على غير ما أقرأتنيها! فقال رسول الله: «أرسله، اقرأ» فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ; فقال رسول الله: «هكذا أنزلت» ثم قال لي: «اقرأ» فقرأت فقال: «هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه». متفق عليه.

وقد تطورت مع الزمن كثير من العلوم المساعدة لتوثيق النص القرآني وسلامته فظهر إعجام الحروف بالتنقيط حتى لا تختلط على غير العرب، ثم ظهر التشكيل للحرف، ثم نما علم الرسم العثماني للقرآن الكريم وتقسيم القرآن الكريم لأجزاء وأحزاب، وهكذا.

العلماء المنصفون

     وكانت نتيجة ذلك اعتراف العلماء المنصفين من كل ملة ودين بسلامة القرآن الكريم من النقص والزيادة أو التحريف والتبديل، بخلاف الكتب السماوية السابقة التي يعترف أهلها بوقوع التبديل والتحريف والنقص والزيادة فيها والتناقض، وهناك كتب وأبحاث عديدة تفصل دقائق هذا المنهج العلمي الفريد الذي أكرم الله -عز وجل- به المسلمين.

السنة النبوية

أما السنة النبوية فقد أنعم الله -عز وجل- على المسلمين بعلم الإسناد والتراجم بما يميزهم عن كل الأمم والشعوب، وبهذه العلوم وما تفرع عنها تمكّن المسلمون من حفظ السنة النبوية وحملها للبشرية جمعاء ليوم الدين، من خلال عقلية عبقرية إبداعية.

 منهج الدقة والتثبت

     وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو من أرسى منهج الدقة والتثبت والإتقان في تلقي السنة النبوية بين أصحابه؛ فحين كان البراء بن عازب يتعلم من النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء ما قبل النوم أخذ يردده حتى يحفظه فأخطأ في كلمة بسيطة فجعل محل كلمة نبيك كلمة رسولك، فردّه النبي وأصلحها له! يقول البراء: قال -عليه الصلاة والسلام-: «إذا أخذتَ مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم إني أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، واجعلهن من آخر كلامك، فإن متّ من ليلتك متّ وأنت على الفطرة»، قال البراء: فرددتهن لأستذكرهن، فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت، قال -عليه الصلاة والسلام-: قل: «آمنت بنبيّك الذي أرسلت» رواه مسلم.

 توثيق السنة النبوية

     ومن مظاهر توثيق السنة النبوية بمنهج علمي أن الرحلة والسفر لطلب تعلم السنة النبوية والتوثق من صحتها بدأ من عصر الصحابة -رضوان الله عليهم-؛ فهذا جابر بن عبد الله يسافر على ناقته في الصحراء مسيرة شهر ليسمع حديثاً واحداً من عبدالله بن أنيس لم يكن سمعه جابر من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة! وروي عن أبي بكر الصديق أنه أول من تثبت في ضبط الأخبار حين حدّثه المغيرة بن شعبة أن النبي -[- أعطى الجدة سدس الميراث؛ فقال له الصدّيق: «هل معك غيرك» فشهد معه محمد بن مسلمة.

 نهج الصحابة والسلف

     ومن نهج الصحابة والسلف كانت انطلاقة العلوم الشرعية المختصة بالتوثق من الروايات النبوية وفحْص سلامتها، وطرح الدخيل عليها أو تصحيح الخطأ والوهم المختلط بها، وقد بلغت علوم توثيق السنة النبوية حد تفريق العلماء بين روايات الراوي الواحد بحسب عمره؛ فيَقبلون حديثه في مرحلة عمرية معينة، ويرفضون حديثه في مرحلة أخرى! وقد يَقبلون حديثه إذا حدث عن كتاب، ويرفضون حديثه من ذاكرته لسوء حفظه أو تغيره من السن! وقد يقبلون حديثه عن شيخ أو راوٍ معين، ويرفضون حديثه عن غيره من الشيوخ أو الرواة لعدم طول اللقاء به والتثبت عنه!

 حقيقة ساطعة

     في الختام: هذه إشارات في بيان الدقة البالغة في توثيق نصوص الوحي الإسلامي في القرآن الكريم والسنة النبوية، وهي حقيقة ساطعة، يحق للمسلمين الافتخار بها على كل أمم الدنيا، ويلزم أن تكون هذه قناعة وثقافة دينية شرعية أصيلة، لا تقبل أي تشكيك أو طعن، ويلزم أن تتوسع وتنتشر بكثافة الأبحاث والمقالات والكتب التي تقرب هذه الحقيقة لعامة المسلمين بوسائل التعليم ونشر الأفكار وبكافة اللغات لسد الطريق على طوفان الشبهات والافتراءات على الإسلام والشريعة الغراء.  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك