رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد 29 نوفمبر، 2018 0 تعليق

نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تهدم الإلحاد

هدم النبوات هدف من أهداف الإلحاد: لا تكمن خطورة الملحد في أنه ينكر وجود الخالق -جل جلاله- فحسب، ولكن في أنه يعمد إلى منظومة الدين فيعمل على هدمها في عقول المحيطين به والمخالطين له، بكل وسيلة متاحة له؛ ولذلك لا تتوقف آلة الهدم الإلحادية عن الطعن في ثوابت الدين، ومنها النبوات، وفي النسق ذاته يعمد الملحد إلى تشويه الأخبار الواردة في سنة رسولنا[، وذلك بضرب النصوص بعضها بعضا، وتأويل بعضها بما يحقق للملحد شعوراً زائفاً بأنه محق في تركه للدين، ومن ثم تشكيك المسلمين في دينهم.

دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

     لقد اجتمع لرسول الله محمد  صلى الله عليه وسلم من دلائل النبوة، ما لم يجتمع لغيره من الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام-، وقد صنف عديد من العلماء آلاف الصفحات في إثبات ذلك، منهم الترمذي، والبيهقي، وابن كثير، وأبو نعيم الأصبهاني، وغيرهم، وقد عدد بعض الباحثين هذه الدلائل؛ فزادت على ألف وأربعمائة دليل، (دلائل النبوة-سعيد باشنفر)، والحق أنها أكثر من ذلك بكثير، وحسبي في مقام الرد على الملحدين أن أذكر بعض هذه الدلائل والبراهين التي تبرز سيرته وسنته وهديه  صلى الله عليه وسلم ، أختار من ذلك في هذه المقالة:

تعبده  صلى الله عليه وسلم في غار حراء

     إن مما لم يطعن عليه أحد من المشككين، من الملحدين وغيرهم، أن النبي  صلى الله عليه وسلم كان يتعبد قبل النبوة في غار حراء، مدة شهر في كل عام، عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله  صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء؛ فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ»، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني؛ فقال: اقرأ، قلت: «ما أنا بقارئ»؛ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني؛ فقال: اقرأ، فقلت: «ما أنا بقارئ»؛ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني؛ فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم}(العلق: 2)؛ فرجع بها رسول الله  صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده. رواه البخاري.

دلالات تعبده  صلى الله عليه وسلم في الغار

كان لتعبد النبي  صلى الله عليه وسلم في الغار دلالات عدة من أهمها ما يلي:

عبادة الاعتزال

      لقد كانت عبادته قبل النبوة في الغار، تتمثل في اعتزال الناس، والانفراد للتأمل، والعزوف عن المفاسد، وقد كان مصدر تعبده على هذا النحو، هو اجتهاده الشخصي، بدلالة قول عائشة -رضي الله عنها-: «حبب إليه»؛ فالعبادة على هذه الكيفية، كانت محبوبة له  صلى الله عليه وسلم ، من غير أن يتلقاها عن أحد، لكننا مع ذلك لا نجد لها أثراً بهذه الكيفية في عبادات الإسلام، التي شرعها الله لنبيه بعد نزول الوحي عليه.

قبل النبوة وبعدها

     فأين هي عبادة الاعتزال بين العبادات التي شرعها الإسلام؟!، إن هذا مما يثير الدهشة، ويدل دلالة لا لبس فيها، على أن ما صدر منه بعد النبوة من تشريعات، بل وتصرفات شخصية أيضاً، له مصدر مخالف تماما لما صدر عنه قبل ذلك؛ فقد كان قبل النبوة يفعل ما يحب، أي ما تميل إليه نفسه، من أقوال وأعمال، غير أن الله -تعالى- عصمه من أفعال الجاهلية، أما بعد النبوة فلا مصدر لشيء من ذلك إلا الوحي، وهذا يعني أنه لو كان محمد  صلى الله عليه وسلم قد اخترع هذا الدين، لأتى لنا بعد ادعائه النبوة بما ألِفَه وأحبه من العبادات قبل ذلك.

     وما فعله (بوذا) حين اعتزل الناس ست سنوات، وتزهد، وتقشف، ثم انطلق بعد ذلك يدعو إلى التقشف والتزهد للتخلص من الآلام، والتسلسل المنطقي في دعوته يؤكد بشريتها على نحو واضح، بينما الانتقال الفجائي من العزلة إلى المخالطة، في دعوة محمد  صلى الله عليه وسلم ، بل ودعوته بعد ذلك أتباعه إلى مخالطة الناس، والصبر على أذيتهم، وكذلك ما أتى به من تشريعات وعبادات ليس من بينها الحث على الاعتزال، أو الانفراد في الخلوات، والكهوف، يعني أننا أمام شيء آخر مختلف، ليس امتداداً لما سبق ولا نتيجة له؛ فالحال الأول (الاعتزال في الكهف) لا ينتج الحال الثاني (مخالطة ـ تشريع وعبادات عملية جماعية: صلاة، صيام، حج، زكاة؛ فعبادات الإسلام الكبرى عبادات جماعية، حتى الزكاة، ليست عبادة شخصية يقوم بها الغني في السر، إنما هي عمل جماعي ترعاه الدولة!؛ فهذه النقلة فيها ترتيب.

المقدمات والنتائج

     المقدمات والنتائج تدل دلالة واضحة وقوية على صدق نبوة رسولنا  صلى الله عليه وسلم ؛ لأن عمله الأول (العزلة) بينما هو نابع من نفسه، يأتي عمله الثاني (تشريعات الإسلام)؛ حيث يفترض عقلاً أنه امتداد للأول، لكنه يأتي على النقيض له تماماً، ليدل بقوة وحسم، على أنه لا مدخل لنفسه فيه، وإنما هو وحي الله -عز وجل.

طريقة نزول الوحي عليه

     إن الطريقة التي تلقى بها الرسول  صلى الله عليه وسلم الوحي أول مرة، وكذلك الطرق التي كان يتنزل الوحي بها عليه بعد ذلك، كلها تدل على أن حالة الوحي بالنسبة له  صلى الله عليه وسلم ، مسألة لا مدخل للإرادة الذاتية فيها البتة، بل هي تحميل مصحوب بمشاق ومجاهدة، ودور النبي  صلى الله عليه وسلم فيها لا يعدو أن يكون دور المتلقي، بل إن مشهد الإرغام واضح في أول لقاء بينه وبين جبريل -عليه السلام-؛ ففي حديث عائشة -رضي الله عنها- السابق، يقول: «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد»، أي عصرني حتى تعبت، وأيضاً جاء عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه ، قَالَ: كان النبي  صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي اشتد ذلك عليه، وعرفنا ذاك فيه، قال: فتنحى منتبذا خلفنا، قال: فجعل يغطي رأسه بثوبه، ويشتد ذلك عليه حتى عرفنا أنه قد أنزل عليه فأتانا فأخبرنا أنه قد أنزل عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}(الفتح:1). رواه أحمد وقال الشيخ أحمد شاكر: صحيح.

     وكذلك عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: «وددت أني قد رأيت رسول الله  صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي؛ فقال عمر: تعال، أيسرك أن تنظر إلى النبي  صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عليه الوحي؟ قلت: نعم؛ فرفع طرف الثوب، فنظرت إليه له غطيط، وأحسبه قال: كغطيط البَكر». رواه البخاري، وأيضاً عن عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قالت: «لقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد؛ فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا». رواه البخاري.

مشاهد نزول الوحي عليه  صلى الله عليه وسلم

     فهذه بعض مشاهد نزول الوحي عليه  صلى الله عليه وسلم في حضور أصحابه، لا يكتنفها طقوس ولا أسرار، وهي بشهادة من عاينها طريقة شديدة، فيها مشقة، وثِقَل، وذلك يؤكد نبوته  صلى الله عليه وسلم ؛ فالوحي كما هو ظاهر، لم يكن يمثل له مطلباً يتشوف إليه، ويسعى لاكتسابه، بل هو أمر شاق؛ فَجَأهُ في المرة الأولى، وتنزل عليه فيما تلى ذلك مصحوباً بكثير من العناء في مرات عدة؛ ولذلك علق ابن حجر على كلام أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-؛ فقال -رحمه الله-: «وفي قولها: «في اليوم الشديد البرد» دلالة على كثرة معاناة التعب، والكرب عند نزول الوحي؛ لما فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة العرق في شدة البرد؛ فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية» فتح الباري، ج1، ص21.

وحي بغير انفراد وخلوة

     لقد أعيا عقلاء العرب وفحول الأدب، وأرباب البيان، أن يأتوا بسورة من مثل القرآن الكريم، مع أنه قد أتى به  صلى الله عليه وسلم من غير عزلة ولا انفراد، كما هو شأن صنوف البيان عند المبدعين، (الشعر - القصة - المقالة)؛ فمن خاض غمار التأليف يعلم أن الجو المحيط به عامل من أهم عوامل إنجازه، لكننا لا نجد لذلك من أثر ولا تأثير في حالة نبينا  صلى الله عليه وسلم ، بل يأتيه الوحي وهو جالس بين أصحابه؛ فيصِفونه لنا بأنه مصحوب بثقل شديد على حواسه وجسده، إن هذا ليرسخ الاعتقاد بأن ما يأتي محمدا  صلى الله عليه وسلم ليس هو ما يأتي الشعراء والبلغاء، قال الله -تعالى-: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}(يس: 69).

وليس هذا هو كل شيء، بل إن الطريقة التي كان يتنزل بها الوحي عليه  صلى الله عليه وسلم لتحمل من البراهين الساطعة على صدق نبوته، ما هو أكثر من ذلك.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك