موقف خلفاء المسلمين من اليهود (4)
استكمالا لما بدأناه في الحديث عن موقف خلفاء المسلمين من اليهود والنصارى، نستعرض فيما يلي بعضاً من تلك المواقف ونستكمله بمواقف أمير المؤمنين هارون الرشيد: (الذي تولى الخلافة 170-193هـ/786-809هم):
فإنه لما قلد الفضل بن يحيى أعمال خراسان، وجعفراً - أخاه - ديوان الخراج، وأمرهما بالنظر في مصالح المسلمين، فعمرت المساجد والجوامع والصهاريج والسقايات، وجعل في «المكاتب» مكاتباً لليتامى، وصرف الذمة عن أعمالهم، واستعمل «المسلمين» عوضاً منهم. وغير زيهم ولباسهم، وخرَّب الكنائس، وأفتاه بذلك علماء الإسلام.
6- أمير المؤمنين عبدالله المأمون الذي تولى الخلافة (198-318هـ/813-832م):
قال عمر بن عبدالله الشيباني: استحضرني المأمون في بعض لياليه - ونحن بمصر - فقال لي: إني كثرت علي سعايات النصارى، وتظلم المسلمين منهم، وخانوا السلطان ماله، ثم قال: يا عمر من أين أصل هؤلا القبط؟
فقلت: هم بقية الفراعنة الذين كانوا بمصر، وقد نهى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن استخدامهم.
فقال: صف لي كيف كان تناسلهم في مصر؟
فقال: يا أمير المؤمنين لما أخذت الفرس الملك من أيدي الفراعنة قتلوا القبط، فلم يبق منهم إلا ما أطبعته يد الهرب، واختفى بأنصناوغيرها، فعملوا «أطباء» وكتاباً، فلما ملكت الروم ملك الفرس كان سببا في إخراج الفرس عن ملكهم، وأقاموا في مملكة الروم، إلى أن ظهرت دعوة المسيح. وفيهم يقول خالد بن صفوان من قصيدة له يمدح بها عمرو بن العاص رض يالله عنه ، ويحثه على قتلهم، ويغريه بهم:
يا عمرو قد ملكت يمينك مصرنا
وبسطت فيها العدل والإقساطا
فاقتل بسيفك من تعدى طوره
واجعل فتوح سيوفك الأقباطا
«فبهم» أقيم الجود في جنباتها
ورأى الأنام البغي والإفراطا
وبقي في نفس المآمون منهم، فلما عاد إلى بغداد اتفق لهم مجاهرة - في بغداد - بالبغي والفساد على معلمه علي بن حمزة الكسائي(1) فلما قرأ عليه المأمون ووصل إلى قوله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }(المائدة: 51).
فقال الكسائي: يا أمير المؤمنين، أتقرأ كتاب الله ولا تعمل به؟فأمر المأمون «بإحضار» الذمة، فكان عدة من صرف وسجن ألفين وثمان مائة، وبقي جماعة من اليهود منحازين إلى حماية بعض جهاته، فخرج توقيعه «ما» نسخته: «أخبثُ الأمم: اليهود، وأخبث اليهود: السامرة(2)، وأخبث السامرة: بنو فلان، فليقطع ما بأسمائهم، من ديون الجيش والخراج إن شاء الله».
ودخل بعض الشعراء على المأمون وفي مجلسه يهودي جالس، فأنشده:
يا ابن الذي طاعته في الورى
وحكمه مفترض واجب
إن الذي عظمت من أجله
يزعم هذا أنه كاذب
فقال المأمون: أصحيح ما يقول:
قال: نعم، فأمر بقتله.
الهوامش:
1- إمام النحو واللغة وأحد القراء السبعة المشهورين، وهو من الكوفة ومات بالري سنة 182هـ، انظر ترجمته في بغية الدعاة 2/164.
2- والسامرة بالعبرية: (كوتيم)، وهم ليسوا من بني إسرائيل، وإنما هم قوم قدموا من بلاد المشرق، وسكنوا الشام ولا يقرون بنبي بعد موسى، ولا بكتاب غير التوراة من كتب (أشعياء) و(أرميا) و(حزقيل) وغيرهم، ويعتقدون أن التوراة الموجودة الآن محرفة مبدّلة، وقد بقي منهم في عصرنا جماعة بنابلس يصعدون كل عام جبل (كزبيرم)، منتظرين مجيء المسيح الموعود به»، انظر «خطط المقريزي» (4/369).
لاتوجد تعليقات