موقف خلفاء المسلمين من اليهود والنصارى(3) نماذج من تعامل أمراء بني العباس لأهل الذمة
استكمالا لما بدأناه في الحديث عن موقف خلفاء المسلمين من اليهود والنصارى، نستعرض فيما يلي بعض تلك المواقف ونبدأها بموقف أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور: (تولى الخلافة: 136هـ/158هـ/754هـ/775م)
فإنه لما حج، اجتمع جماعة من المسلمين إلى شبيب بن شيبة، وسألوه مخاطبة المنصور: أن يرفع عنهم المظالم، ولا يمكّن النصارى من ظلمهم وعسفهم في ضياعهم، ويمنعهم من انتهاك حرماتهم، وتحريهم؛ لكونه أمرهم أن يقبضوا ما وجدوه لبني أمية.
قال شبيب: فطفت معه فشبك أصابعه على أصابعي فقلت: يا أمير المؤمنين، لي أن أكلمك بما في نفسي؟
فقال: أنت وذلك.
فقلت: إن الله - سبحانه - كما قسم أقسامه بين خلقه، لم يرض لك إلا بأعلاها وأسناها، ولم يجعل فوقك في الدنيا أحدا، فلا ترض لنفسك أن يكون فوقك في الآخرة أحد.
يا أمير المؤمنين، اتق الله، فإنها وصية الله إليكم، جاءت، وعنكم قبلت، فإليكم تؤدى. وما دعاني إلى قولي إلا محض النصيحة لك والإشفاق عليك وعلى نعم الله عندك: اخفض جناحك إذا علا كعبك، وابسط معروفك إذا أغني يدك.
يا أمير المؤمنين، إن دون أبوابك نيرانا تأجج من الظلم والجور، لا يعمل فيها بكتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، يا أمير المؤمنين، سلطت أهل الذمة - على المسلمين - ظلموهم وعسفوهم، وأخذوا ضياعهم، وغصبوا أموالهم، وجاروا عليهم، واتخذوك سلما لشهواتهم. وإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا يوم القيامة.
فقال المنصور: خذ خاتمي، فابعث به إلى من تعرفه من المسلمين، وقال: يا ربيع، اكتب إلى الأعمال، واصرف من بها من الذمة، ومن أتاك به شبيب فأعلمنا بمكانه لنوقع باستخدامه.
فقال شبيب: يا أمير المؤمنين، إن المسلمين لا يأتونك وهؤلاء الكفرة في خدمتك، إن أطاعوهم أغضبوا الله، وإن أغضبوهم أغروك بهم، ولكن تولي اليوم الواحد عدة، فكلما وليت عزلت آخر.
4- موقف أمير المؤمنين محمد المهدي، الذي تولى الخلافة (158-169هـ/775- 785هـ):
وأما المهدي: فإن أهل الذمة في زمانه قويت شوكتهم، واجتمع المسلمون مع أحد الصالحين وسألوه أن يعرفه بذلك وينصحه - وكان له عادة في حضور مجلسه، فاستدعي للحضور عند المهدي، فامتنع فجاء المهدي إلى منزله، وسأله السبب في تأخره. فقص عليه القصة، وذكر اجتماع الناس إلى بابه متظلمين من ظلم أهل الذمة، ثم أنشده:
بأبي وأمي ضاعت الأحلام
أم ضاعت الأذهان والأفهام؟
من صد عن دين النبي محمد
أله بأمر المسلمين قيام؟
إلا تكن أسيافهم مشهورة
فينا، فتلك سيوفهم أقلام
ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنك تحملت أمانة هذه الأمة، وقد عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، ثم سلمت الأمانة التي خصك الله بها إلى أهل الذمة دون المسلمين.
يا أمير المؤمنين، أما سمعت تفسير جدك لقوله تعالى:
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}(الهف:49).
«إن الصغيرة: التبسم، والكبيرة: القهقهة»، فما ظنك بأموال المسلمين وأماناتهم وأسرارهم وقد نصحتك، وهذه النصيحة حجة علي ما لم تصل إليك. فولى عمارة بن حمزة أعمال الأهواز وكور دجلة، وكور فارس، وقلد حمادا: أعمال السواد، أمره أن ينزل إلى الأنبار وإلى جميع الأعمال، ولا يترك أحدا من الذمة يكتب لأحد من العمال. وإن علم أن أحدا من المسلمين استكتب أحدا من النصارى، قطعت يده. فقطعت يد شاهونه وجماعة من الكتاب.
وكان للمهدي على بعض ضياعه كاتب نصراني بالبصرة، فظلم الناس في معاملته، فتظلم المتظلمون إلى سوار بن عبدالله القاضي، فأحضر وكلاء النصراني، فأخذ كتاب المهدي إلى القاضي سوار بالتثبت في أمره، فجاء البصرة ومعه الكتاب، وجماعة من جهة النصارى، وجاؤوا إلى المسجد فوجدوا سوارا جالسا للحكم بين المسلمين. فدخل المسجد وتجاوز الموضع الذي كان يجب الوقوف عنده، فمنعه الخدم، فلم يعبأ بهم وسبهم، ودناحتى جلس عن يمين سوار، ودفع الكتاب، فوضعه بين يديه ولم يقرأه وقال:
ألست نصرانيا؟
قال: بلى أصلح الله القاضي، فرفع رأسه وقال: جروا برجله، فسحب إلى باب المسجد، وأدبه تأديباً بالغاً، وحلف أن لا يبرح واقفا إلى أن يوفي المسلمين حقوقهم. فقال له كاتبه: قد بلغت اليوم أمراً يخاف أن تكون له عاقبة: «أعز أمر الله، يعزك الله».
لاتوجد تعليقات