موقف الصحابة والتابعين من تفويض صفات رب العالمين
أما بعد، فإن مذهب السلف قاطبة هو إثبات صفات الله -تعالى- وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها؛ إذ الأصل: «أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، ويُحتذَى في ذلك حَذْوَه ومِثاله»، فإذا كان معلومًا أن إثبات الباري -سبحانه- إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية؛ فكذلك إثبات صفاته، إنما هو إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف.
انفرد الله -تعالى- بعلمها
إذا ثبت هذا فإن تأويل صفات الله -تعالى- هو الحقيقة التي انفرد الله -تعالى- بعلمها، وهو الكيف المجهول الذي قال فيه السلف -كربيعة ومالك وغيرهما-: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»، ومعنى (الاستواء معلوم): أنه يُعلم معناه، ويُفسَّر، ويُترجَم بلغة أخرى، وهذا من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، ومعنى (الكيف مجهول): أن كيفية ذلك الاستواء وغيره من صفات الله -تعالى- من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله -تعالى.
وإنما كان السؤال عن الكيفية بدعة؛ لأنه سؤال عمَّا لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه؛ إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له.
تواتر هذا المعنى عن السلف
وقد تواتر هذا المعنى عن السلف الكرام -رضي الله عنهم- من الصحابة والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله -تعالى- الأرض ومن عليها؛ يقول ابن الماجشون (ت 164 هـ) والإمام أحمد (ت 241 هـ) وغيرهما من علماء السلف: «إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وإن كنا نعلم تفسيره ومعناه».
لذا فإنك لا تكاد تجد أحدًا ممن يدعي أن تفويض معاني الصفات، هو مذهب السلف يأتي بمثال واحدٍ عنهم ينفي إثبات المعاني عن صفات الله -تعالى.
عجز مناظري ابن تيمية
وقد عجز جميع من ناظر شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) منهم أن يأتي بمثالٍ واحدٍ عندما قال لهم شيخ الإسلام وفي حضور الملأ: «قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين؛ فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة -التي أثنى عليها النبي[؛ حيث قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» - يخالف ما ذكرته، فأنا أرجع عن ذلك، وعليَّ أن آتي بنقول جميع الطوائف عن القرون الثلاثة توافق ما ذكرته من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والأشعرية، وأهل الحديث، والصوفية، وغيرهم.
آثار الصحابة والتابعين
ونعرض هنا لجملة صالحة من الآثار عن الصحابة والتابعين، تبيِّن براءتهم من التفويض، وفي ذلك رد على مذهب أهل التفويض:
أقوالهم في الحث على تدبر القرآن الكريم
لقد حثَّ سلفنا الكرام -رضي الله عنهم- على تدبُّر القرآن الكريم وتفهم معانيه، ومنه آيات الصفات امتثالًا لقوله -تعالى-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}(النساء: 82)، وقوله -عز وجل-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(محمد: 24)، وهاكم بعض أقوالهم في هذا: يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «كان الرجل منَّا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن»، ويقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: «التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله -تعالى- ذكره».
ولا متمسك لأهل التفويض في قول ابن عباس: «تفسير لا يعلمه إلا الله -تعالى- ذكره»؛ فإن الإمام الطبري (ت 310 هـ) بيَّن معناه؛ فقال: «وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية: كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسى ابن مريم، وما أشبه ذلك؛ فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه».
وعن مسروق بن الأجدع (ت 62 هـ) قال: «ما نسأل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن شيء إلا وعِلمه في القرآن، ولكن علمنا قَصَرَ عنه»، وعن عبد الرحمن السلمي (ت 74 هـ) قال: «حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئُون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل».
وعن مجاهد بن جبر (ت 101 هـ): قال: «عرضت القرآن على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته ثلاث عرضات، أقفه عند كل آية»، وعن عامر الشعبي (ت 104 هـ) قال: «ما ابتدع في الإسلام بدعة إلا وفي كتاب الله -عز وجل- ما يكذبه»، وقال الحسن البصري (ت 110 هـ): «ما أنزَل الله آيةً إلا وهو يُحِبُّ أن يُعْلَمَ ما أراد بها».
تفسيرهم لآيات الصفات
إن المتتبع لأقوال الصحابة والتابعين المتكاثرة يجد أنهم فسروا القرآن، وعلموا المراد بآيات الصفات، كما علموا المراد من آيات الأمر والنهي، ومن أقوالهم:
عن مسروق: أنه كان إذا حدث عن عائشة، قال: «حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرأة من فوق سبع سموات»، قال الذهبي: (إسناده صحيح).
وعن شريح بن عبيد الله «توفي بعد المائة»: أنه كان يقول: «ارتفع إليك ثغاء التسبيح، وصعد إليك وقار التقديس -سبحانك- ذي الجبروت، بيدك الملك والملكوت، والمفاتيح والمقادير»، قال الذهبي: (إسناده صحيح).
وعن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في قوله -تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (البقرة: 29)، يقول: «ارتفع إلى السماء».
وقال أبو العالية (ت 90 هـ): {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}: (ارتفع)، قال ابن أبي حاتم: «وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله»، وقال مجاهد بن جبر: {اسْتَوَى}: (علا)، ولو ذهبنا نستقصي أقوالهم لطال بنا المقام، وحسبنا ما ذكرناه.
لاتوجد تعليقات