موقف أهل السنة من الفتن العامة (2)
تمرُّ بالأمة أزماتٌ، وتعصِف بها أيامٌ، ويختلط فيها الباطل بالحقِّ، وتموج الشبهاتُ على الناس كموجِ البحر الهائج، وتتلاعب بالناس الأفكارُ والتوجّهات، كما يتلاعب الموجُ الهادر بقارب صغير تائهٍ في أعماق المحيطات، والسعيد من تعلَّق بسفينة النجاة، وتجاوَز الرياحَ العاصفة والأمواجَ العاتية من الفتن المضلَّة، ووصل إلى بر الأمان، وهذه ورقة علميةٌ سنُسهِم من خلالها في بيان موقف أهل السنة من هذه الفتن العظيمة، وبيان واجب المسلم تجاهها، وكيف يتعامل معها.
4- عدم الخوض فيها
من استقرأ أحوال الفتن التي تجري بين المسلمين تبيَّن له أنه ما دخل فيها أحدٌ فحُمِدت عاقبةُ دخوله؛ لما يحصل له من الضرر في دينه ودنياه؛ ولهذا كانت مِن باب المنهيِّ عنه، والإمساك عنها من المأمور به الذي قال الله فيه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ستكون فتنٌ، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، مَن تشرَّف لها تستشرفه؛ فمن وجد منها ملجَأ أو مَعاذًا- فليَعُذْ به»، قال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله-: «في هذا الحديث التحذيرُ من الفتنة، والحثُّ على اجتناب الدخول فيها، وأنَّ شرَّها يكون بحسب التعلُّق بها، والمراد بالفتنة: ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك؛ حيث لا يُعلَم المحقُّ من المبطِل».
توجيه نبوي عظيم
ولأجل هذا التوجيه النبوي العظيم اعتزل كثير من الصحابة الكرام مواضع الفتن، وفرُّوا منها فرارهم من الأسد؛ فقد اعتزل سعد بن أبي وقَّاص الفتنةَ، فلم يحضُر موقعةَ الجمل، ولا موقعة صِفِّين، ولا التحكيمَ بين علي ومعاوية. قال أيوب السَّختياني: اجتمع سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عمر، وعمار بن ياسر فذكروا الفتنة، فقال سعد: أمَّا أنا فأجلسُ في بيتي ولا أدخل فيها، وقال محمد بن سيرين: قيل لسعد بن أبي وقاص: ألا تقاتل؟؛ فإنك من أهل الشورى، وأنت أحقُّ بهذا الأمر من غيرك؛ فقال: لا أقاتل حتى تأتوني بسيفٍ له عينان ولسان وشفتان، يعرف المؤمنَ منَ الكافر؛ فقد جاهدتُ وأنا أعرف الجهاد.
فتنة ابن الزبير
ولم يكن موقفُ سعد بن أبي وقاص هو الوحيد في اعتزال الفتنة؛ فعن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعُك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرَّم دمَ أخي؛ فقالا: ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}(البقرة: 193)؟؛ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنةٌ وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.
كان ناصحًا أمينًا
وهذا أبو بَكْرةَ نُفَيع بن الحارث الثقفي كان ناصحًا أمينًا؛ فقد روى الشيخان عن الأحنف بن قيس قال: خرجتُ وأنا أريد هذا الرجلَ، فلقِيني أبو بكرة، فقال: أين تريد يا أحنفُ؟ قال: قلتُ: أريد نصرَ ابنِ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: عليًّا-، قال: فقال لي: يا أحنفُ، ارجع؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»، قال: فقلتُ: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: «إنه قد أراد قتْل صاحبه».
اعتزال الفتنة
بل اعتزل أكثرُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قتالَ الفتنة، وفقهوا معاني الأحاديث التي روَوها في الفِتَن وفضْل اعتزالها، وما وصَّاهم به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فاعتَزَلُوا الطوائف المتقاتِلة، ومنهم مَن خرج إلى البادية فِرارًا من الفتنة، ومنهم من مكث في بيته تجنبًا لها؛ فعن محمد بن سرين قال: «هاجت الفتنةُ وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف، فلم يحضُرْها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين».
5- السعي إلى إزالة أسبابها
السعي إلى إزالة أسباب الفتنة قبل استفحالها، والاجتهاد في الإصلاح فيها وتقليل آثارها عند وقوعها، أمَر الله -تعالى- به؛ وذلك بأن يتَّخذ المسلمون وقاية بينهم وبين الفتنة بمنع أسبابها، قال -تعالى-: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}(الأنفال: 25)؛ فاتِّقاء الفتنة ابتداءً قبل وقوعها -ولا سيما من أهل الحل والعقد- مطلبٌ شرعيّ، والقاعدة الفقهيَّة تقول: «المنع أسهل من الرفع»، وهو قريبٌ من القاعدة الصِّحيَّة: «الوقايةُ خير منَ العِلاج»، ودفعها في بداياتها أسهل من رفعها بعد وقوعها؛ لأنها إذا استشرت صعب دفعها، وشواهد التاريخ خير مثال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فالفتنة إذا ثارت عجز الحكماءُ عن إطفاء نارها»، وفي المأثور: «الفتنة نائمَة، لعن الله من أيقظها».
6- الحذر من كيد الأعداء
الحذر من كيد الأعداء المتربِّصين من الداخل والخارج المثيرين الفتن والمنتهزين لها لتحقيق أطماعهم؛ فالرسُل -عليهم السلام- قد مكر بهم أقوامُهم، وكادوا لهم، ونال أولي العزم منهم أشدُّ الكيد والمكر، والأصل في الكفار والمنافقين أنهم يكيدون للمؤمنين، ويمكرون بهم، فإذا وُجد ذلك الكيد والمكر علِم أن الدعوةَ دعوة حقٍّ؛ لأن الأعداء لم يرضَوا عنها، ويريدون اجتثاثَها، وإذا لم يحصل ذلك الكيد والمكر؛ فليعلم صاحب الدعوة أن دعوته بها خللٌ منَع عنها كيدَ الأعداء ومكرهم.
سُنَّة ماضيَة
وإذا عُلم أن مكرَ الكفار والمنافقين بالمؤمنين سُنَّة ماضيَة إلى يوم القيامة؛ فعلى المؤمنين ألا يجزعوا منه ولا يخافوا، كما قال الله -تعالى- لنبيِّه صلى الله عليه وسلم : {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}(النحل: 127)، وعليهم ألا يتنازلوا عن شيءٍ من دينهم لاتِّقائه، بل يواجهونه بالتوكل على الله -تعالى-، والاعتصام به، واجتماعهم على كلمةٍ سواء؛ فإنَّ كيد الكفار ومكرَهم لا يمضي في المؤمنين إلا في حال اختلافهم وفرقتهم وتمزقهم؛ ولذا قال الله -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}(آل عمران: 103).
العدوّ الداخليُّ
والعدوّ الداخليُّ لا يقلُّ خطره عن العدوِّ الخارجيِّ، وهم إخوانه الذين ينفِّذون مخططاته ويحقِّقون مطامعَه، وإن كانوا تظاهروا بأنهم في صفِّ المسلمين؛ فكيدهم للإسلام وأوطان الإسلامِ مستمرٌّ إلى عصرنا الحاضر، إلا أنهم ظهروا بأسماء جديدة، كالعلمانية، والليبرالية، والتنويرية، والحداثة وغيرها من التَّسميات البرَّاقة الخدَّاعة، قال الله -تعالى- عن هذا الصنف من الناس: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}(المنافقون: 4)، وقوله: {فَاحْذَرْهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: فاحذر أن تثقَ في قولهم، أو تميل إلى كلامهم، والثاني: فاحذر ممايلتهُم لأعدائك، وتخذيلهم لأصحابك.
7- التأني والرفق
التأني والرفق والحلم وعدم العجلة حالَ الفتن يجعَل المسلمَ يبصر حقائقَ الأمور بحكمةٍ، ويقف على خفاياها وأبعادها وعواقبها؛ فالتسرّعُ والعجلة ليست من منهج الأمة الإسلامية الراشدة، ولاسيما في زمن الفتن وتسارعِ الأحداث، قال المستورد القرشي رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقوم الساعة والرومُ أكثر الناس»، قال: فبلغ ذلك عمرَو بنَ العاص؛ فقال: ما هذه الأحاديثُ التي تذكر عنك أنك تقولها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؛ فقال له المستورد: قلتُ الذي سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: فقال عمرو: لئن قلت ذلك؛ إنهم لأحلم الناسِ عند فتنةٍ، وأَجبر الناس عند مصيبةٍ، وخيرُ الناس لمساكينهم وضعفائهم.
وهذا الحديث من دلائل النبوة وعلاماتِ الساعةِ، وفيه بيان كثرة الروم على غيرهم، وسبب كثرتهم هو: ظهور الحِلم فيهم عند الفتن؛ مما يجعلهم ينظرون إلى الأمور ويعالجونها بغير نزق أو طيش كما يفعل الآخرون؛ ولأن حياتهم السياسية مستقرة غالبًا؛ فالرعايا لا تُظلَم من قبل الحكام، وهذه الخصلة استحسنها عمرو بن العاص رضي الله عنه ، وقال عنها: حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ.
8- التوبة الصادقة والاستغفار:
يُبتلى المؤمن بالفتن ليكونَ إيقاظًا له من الغفلة، وحثًّا له على التوبة والاستعداد، ومن المقرر في الشريعة أنه لا ينزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا يرفعه الله -تعالى- إلا بتوبة صادقة، والنصوص في هذا كثيرة ومتضافرة، يقول الله -تعالى- عن سبب إهلاك الأمم السابقة: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(آل عمران: 11)، وقال -تعالى-: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}(الأنعام: 6)، وقال -تعالى-: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}(الأعراف: 100)، وهذه الآيات كلُّها تبيِّن أثرَ المعصية في إهلاك تلك الأمم، وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الرجلَ ليُحرم الرزقَ بالذنبِ يصيبه».
أثر الإيمان والتقوى
وبالمقابل؛ فإن الله -تعالى- بيَّن أثر الإيمان والتقوى والاستغفار والتوبة في جلب الخيرات والبركات لأهل الأرض؛ فقال -تعالى-: {ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(لأعراف: 96)، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(التحريم: 8)، وقال -عزوجل- عن نوح عليه السلام : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}(نوح: 10-12).
لاتوجد تعليقات