موضع الفهم والتعقل هو القلب -إشكالية الفهم والإدراك لدى الدعاة
أمية الفهم والإدراك مشكلة خطيرة وآفة عظيمة؛ لأنها تتسبّب دوماً باتباع الباطل ونصرته، ومحاربة الحق والإعراض عنه، وهذه الأمية أو عدم الفهم والإدراك سبب رئيس للكفر بالله -عز وجل- والإعراض عن اتباع رسله وأنبيائه، ومن ذلك قوله -تعالى-: {أفلم يسيروا في الأرض فتكونَ لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}(الحج: 46).
وفي الآية الكريمة إشارة صريحة إلى أن موضع الفهم والتعقل هو القلب الذي في الصدر، وهو ما بدأ العلم الحديث مؤخرا الاعتراف به والإقرار به وبأن القلب ليس مجرد عضلة ومضخة للدم فحسب!، وفي هذه الآية الكريمة أيضًا يعيب ربنا -عز وجل- على الكفار من بني البشر، كيف لا يستفيدون من حواسهم كالسمع، والبصر في الفهم والإدراك والتفكر لحقيقة الوجود وغايته؟ وتاريخ الأمم السالفة وحقائق الوحي التي جاء بها الأنبياء والرسل، ومن ثم يهتدون للحق بالدخول في دين الإسلام، ونبذ الشرك والكفر والعصيان.
صدق الوحي الرباني
فهذا الوجود مليء بالأدلة على صدق الوحي الرباني بأن هذا الكون مخلوق مصنوع من قبل الله -عز وجل- الخالق المالك، وأنه -سبحانه وتعالى- سخر لجنس الإنسان ما في السماء والأرض، من أجل أن يقوم الإنسان بعبادة الله -عز وجل- وطاعته، ومن ذلك عمارة الأرض والدنيا بالحق والعدل.
دعاة الكفر والإلحاد
والطريف في الموضوع أن دعاة الكفر والإلحاد، إنما يسوقون كفرهم وإلحادهم بادعاء زائف، بأن الدين يناقض الفهم والإدراك والعلم، بينما الحقيقة أن الكفر والإلحاد هما نتيجة طبيعية لأمية الفهم والإدراك والجهل وعدم العلم واتباع الفرضيات غير المثبتة، كنظرية دارون أو التطور الموجه، وإن الدين هو الموافق للعلم والفهم والإدراك، كما يتأكد ذلك كلما تقدم العلم وتطور ووصل لليقين، وآفة أمية الفهم والإدراك وعدم الاستفادة الصحيحة من معطيات الحواس آفة خطيرة ولها تبعات كثيرة، وهي لا تقتصر فقط على عدم الإيمان بالله -عز وجل- كما هو حال الكفار والملاحدة، بل يقع فيها بعض المسلمين على مستويات أخرى منها:
الأفكار والمناهج المبتدعة
مستوى أمية الفهم والإدراك لخطورة الأفكار والمناهج المبتدعة، ومن أمثلة ذلك في تاريخنا موقف الإمام أحمد بن حنبل من رفض فكرة خلق القرآن الكريم التي تبنّتها المعتزلة (دعاة العقلانية المزعومة) وفرضتها بالقوة، ومن أبسط أسباب رفض فكرة خلق القرآن الكريم، أن كل مخلوق يجوز عليه الفناء والخطأ والنقص، وهو الأمر الذي أصبح يصرح به دعاة العقلانية اليوم تحت شعار (تاريخانية القرآن الكريم)، وأنه صالح لذلك الزمان فحسب!
تأييد جماعات العنف
ومثال آخر لأمية الفهم والإدراك لخطورة الأفكار والمناهج المبتدعة، مسارعة كثير من الناس لتأييد جماعات العنف والإرهاب والتطرف؛ لأنها رفعت شعارات تحكيم الشريعة والجهاد في سبيل الله وإقامة الخلافة، وبرغم بيان أهل العلم بخطورة منهج الغلو والتحذير من فتنة الأصاغر التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن الكثير من الشباب المخلص والمتهور والمغرر به ضرب بكل ذلك عرض الحائط.
سيادة الجهلاء
ولم يفهم ويدرك الناس والشباب الحقيقة إلا حين ذابت الشعارات وتبينت الحقائق بسيادة الجهلاء والعملاء لهذه الجماعات، الذين قادوا الأمور للفساد والدمار دون نتيجة تذكر، ومع ذلك ما يزال بعضهم يُحسن الظن بهذه الجماعات، أو يعتقد سلامة منهج العنف والغلو بسبب حال الاستبداد والظلم والعدوان برغم كل الحقائق التي ظهرت ويراها الناس ويسمعونها في كل لحظة؛ «فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور».
ضخامة الكذب والدجل
مستوى أمية الفهم والإدراك لضخامة الكذب والدجل والتضليل في الأخبار والدعايات السياسية والإعلامية؛ فبرغم كل التجارب المرة التي عانتها أمتنا بسبب التضليل الإعلامي والسياسي؛ فما يزال كثير من الناس، بل والفضلاء، يقع في هذا المطب والفخ يوميا تقريبا؛ فتراه يروج على صفحاته في وسائل التواصل، أو في رسائل الواتساب الإشاعات والتضليل، أو تجده يتبنى مواقف جدّية بناءً على أباطيل وأكاذيب.
مقاطع الفيديو
فإلى متى تبقى أمية الفهم والإدراك في التعامل مع مقاطع الفيديو؛ حيث من الضرورة فحص المقاطع المصورة قبل نشرها؛ بحيث لا تكون مجتزأة، أو قديمة، أو ليست ذات صلة بالموضوع أصلا، وخطأ نشر مقطع مترجم دون تثبت من الترجمة، ولم يعد من المقبول بقاء أمية الفهم والإدراك في التعامل مع الأخبار، بعدم التثبت من صدق الخبر، سواء بمدى معقوليته، أم مصداقيته، أم وجود أجندة عدائية، أو مناكفة بين المصدر وموضوع الخبر.
إلى متى سيبقى الفضلاء -فضلاً عن عامة الناس- يرون ويسمعون الكذب والتضليل ويقعون في حبائله، ثم يتبين لهم مقدار الكذب والتضليل، ثم لا يُعملون عقولهم وقلوبهم في تمييز الحق من الباطل في المرات القادمة؟ {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}.
تحقيق الأمن الأخلاقي
رئيس جمعية تجمع سنابل الخير التربوي
بعد أن غرق المجتمع في كثير من الأمور التي جعلها في باب الأمن، من خلال الرؤية المادية، وتأمين المستلزمات الغرائزية، وحاجيات الحياة اليومية، من الأمن الغذائي، والأمني، والبعد الاقتصادي، كان لابد للقائمين على ثغر التوجيه للأمة، من الأفراد، والأسر، والمجتمعات من توجيه السلوك، والحضّ على التربية الأخلاقية؛ لحفظ المجتمع من مصائب التعديات التي تقع دائماً من زاوية الرؤية المادية والحسية، للخروج بها إلى الرؤية المعنوية التي تنظم الحياة وتضعها على الطريق الصحيح؛ وذلك لأن كل شيء يرتبط بالأخلاق ارتباطًا لازمًا.
ومن تأمل الدعوة القرآنية إلى مكارم الأخلاق؛ حيث مدح الله حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم}؛ فإنه يعلم أن هذا الأمر رزقٌ من عند الله -جل وعلا-، يقول -سبحانه-: {فبما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم ولو كنتَ فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك}.
ومن هنا؛ فقد كانت الرحمة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم والمجتمع الأول متمثلةً في العدل وجوباً والإحسان تفضلاً {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى}، ثم قائمةً في النهي عن ضده {وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي}؛ فكانت هذه الموعظة العظيمة تحذيراً من الوقوع في المنهي عنه حتى لا يكون العقاب الدنيوي أو الأخروي {يعظكم لعلكم تذكرون}، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن أجمعَ آيةِ في القرآن في سورة النحل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان...} الآية.
وقال قتادة في قول الله -تعالى-: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان...} الآية. ليس من خُلُق حسَنٍ كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله -تعالى- به، وليس من خلقٍ سيء كانوا يتعايرونه بينهم، إلا نهى الله -تعالى- عنه وقدم فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامِّها.
لذلك كان لزامًا على الشعوب أن تدور في فلَك الأخلاق الفاضلة التي تُشْعِرُ المجتمعات بالأمن الحقيقي، وإن أية دعوة إلى سوء الأخلاق عبر أية وسيلة من الوسائل المتاحة، وعدم مراقبتها هو هلاك للأمم ابتداء من البيت إلى آخر وسيلة إعلامية أو سياسية أو اقتصادية، -ورحم الله- شوقي عندما قال:
وإذا أصيب القومُ في أخلاقهم فأقِمْ عليهم مأتمًا وعويلا
وصدق حينما قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيَتْ فإن همُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا
لاتوجد تعليقات