موريتانيا.. البحث عن الماء حلم يؤرق فقراء الريف !!
أمام سد جفت كل مياهه، ووسط مساحات شاسعة بصحراء موريتانيا يجلس محمد ولد سيد أحمد، وهو يقلب كفيه على ما أنفقه من أموال في تسييج أهم الحقول المجاورة لقريته الصغيرة، وكيف جلس وغيره في انتظار مياه أمطار باتت شحيحة منذ سنوات بفعل ما كسبت أيدي الناس.
كانت الساعة الخامسة مساء، وكنا في إجازتنا السنوية على بعد 850 كلم من العاصمة نواكشوط، كانت الأرض قاحلة والسماء زرقاء صافية، ودرجة الحرارة قد جاوزت الأربعين، لكن الفضول الصحافي دفعنا لمرافقة الشيخ الوقور إلى مكان عمله حيث يقضي أغلب يومه منهمكا في مراقبة السياج الذي أشتراه قبل سنوات لتأمين «السد» الوحيد بقريته، وسد أي خلل قد يكون منفذا للحيوانات السائبة إلى حقله إن قدر لأمطار الخريف أن تعرف طريقها إلى الحقول.
يستذكر ولد سيد أحمد بحماس كيف انتظر سنوات طويلة أملا فى أن ينال من الدولة أي مساعدة لقريته التي أسسها سنة 1962 كما يقول (بعد سنتين من الاستقلال)، وكيف أن وعود كل الحكومات المتعاقبة كانت تذهب ذهاب مطلقيها تاركة للقرية مزيدا من الحسرة والألم وللمتصدرين للشأن العام فيها مزيدا من التكلفة والعناء.
حاول ولد سيد أحمد الحصول على مساعدة لحفر أول بئر بالقرية بعد أن كانت تجلب المياه إليها من آبار تبعد عنها بـ12 كلم لكنه فشل؛ مما اضطره مع عدد من رفاقه – بعضهم قضى وآخرون أقعدهم العجز- إلى القيام بالواجب بعيدا عن أي مساعدة، مرت سنتان فقط فكان للقرية ما تريد (بئر بطول 32 مترا) وحلت مشكلة مياه الشرب وبدأت أحلام القرية وكأنها في طريقها للتحقق.
تقع قرية «أكدرنيت» على بعد 80 كلم شرق مدينة لعيون عاصمة ولاية الحوض الغربي بموريتانيا، ويعتمد السكان فيها على رعي الماشية وتداول محدود للسلع التجارية الوافدة من المدن الرئيسية بالبلاد.
مع نهاية السبعينيات ومع موجة الجفاف التي ضربت البلاد، وجد السكان أنفسهم فقراء فجأة بعد أن نفقت المواشي وعز النصير، حاول رجال القرية الصغيرة التكاتف للحصول على مورد رزق جديد فكانت الزراعة وجهتهم اللاحقة.
يروي ولد سيد أحمد كيف كانت الفكرة بعيدة عن نفوس السكان الذي عاشوا سنوات طويلة وهم يعتمدون في كل شؤونهم اليومية على ما تنتجه الماشية من ألبان ولحوم، أو ما يشترونه من الحدود الموريتانية المالية سنويا ضمن قافلة معروفة (أجلابه)، يشارك فيها رجال الحي وتباع فيها الماشية بمختلف أصناف الحبوب ومعها تجلب الثياب والشاي في مشهد بات اليوم بعيدا عن أذهان الكثيرين منهم بسبب تغير ظروف العيش.
مع بداية فصل الخريف سنة 1982 قرر سكان القرية بداية مشوارهم الجديد مع الزراعة مستصلحين إحدى الغابات الشهيرة بالمنطقة «كنيو» ليكونوا حقلاً جامعاً للقرية ولأصدقائها من مجمل القبائل المجاورة في مشهد تعاون مثمر استمر حتى سنة 1995 حينما تراجع منسوب مياه الأمطار السنوي وتراجعت وحدة المجموعة قبليا لمصلحة النزاعات الداخلية وعجز العديد من رجال القرية عن تأمين «كنيو» بسبب وفرة الماشية السائبة وانعدام وسائل الحماية للحقول وخصوصا أثناء فصل الشتاء.
لم يستسلم ولد سيد أحمد كما يقول بل قرر مواجهة المشكلة بعزمه مستعينا بما جمعه من شياه نعاج أثناء السنوات الماضية، ليبيع أغلب ما يملك لشراء سياج جديد، ولكن هذه المرة لسد آخر قرب القرية من أجل ضمان مشاركة الجميع في زراعته فقد بات أغلب الرفاق بحكم السنين عاجزين عن مغادرة مرابع الحي إلى مناطق أبعد.
يقول ولد سيد أحمد، وقد تجاوز الستين من عمره: «كل ما أتمناه اليوم هو القدرة على توفير مياه شربة صالحة للقرية التي أسستها وأحببتها، وأن أرى الحقول خضراء أو الصلاة في المسجد».
المسجد هو الآخر شاهد على عزم البدوي وفقره في آن واحد، فقد بناه سنة 1982م من الطين وسيجه بأغصان الشجر، وبات ملزما بتجديده كل سنة خوفا عليه من الانهيار، بل إنه أنهار سنة 1994 حينما شهدت المنطقة أمطارا غزيرة، لكنه أعاد بناءه وبات اليوم جزءا من هويته يقضي فيه أغلب الأوقات التي يكون فيها خارج الحقل الزراعي، مستذكرا خصال الأسلاف كما يقول وتغير أحوال الناس وانشغالهم بالصراعات عن الإنجاز.
يقول ولد سيد أحمد، وهو يدعو الله لنا بعد نهاية اللقاء: كانت لدي أحلام كثيرة ولكن غياب الدعم الرسمي ورفضي أخذ أموال «النصارى» وسنوات الجفاف القاسية، كلها أمور نالت من مستوى الطموح ومنعتني عن التفكير في العديد من المشاريع التي راهنت عليها خلال السنوات الماضية وأهمها توفير مياه الشرب للقرية من آبار ارتوازية وعمل حدائق خضراء للسكان من أجل توفير المستلزمات الضرورية لحياتهم اليومية، ولم يبق لدي من حلم الآن سوى بناء المسجد؛ لأني أخشى عليه من الانهيار بعد موتي، وسكان القرية كما تعلم غير متحمسين للكثير من الصعاب.
لاتوجد تعليقات