مواقف العلماء في مواجهة التصوف في السودان
رسالة الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه لواليه على مصر -عمرو بن العاص رضي الله عنه - كانت أول اهتمام مباشر لنشر الإسلام في السودان؛ إذ أمره بتسيير حملة إلى بلاد النوبة، و بالفعل تم تسيير حملة بقيادة عقبة بن نافع، ثم قاد عبد الله بن سعد بن أبي السرح حملة أخرى في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنهم أجمعين- سنة ٣١هـ / ٦٥٢م وتوغلت حتى دنقلا وحاصرتها حصارًا شديدًا حتى انتهى الأمر إلى صلح عاهد فيه المسلمون أهل النوبة على الأمان.
كما كان من بنود هذا الصلح أن يدخل المسلمون بلاد النوبة مجتازين غير مقيمين، وعلى النوبة حفظ من نزل بلادهم من المسلمين أو المعاهدين، وعليهم حفظ المسجد وإسراجه وتكرمته وألا يمنعوا عنه مصليا، ويرى بعض المؤرخين أن المسلمين لم يقصدوا فتح بلاد النوبة، بل أرادوا أن يضعوا حدا لهجماتهم، وواضح أن الاتفاقية تمت بموافقة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ حيث عُقدت في خلافة عثمان بن عفان، وقد استمرت ستة قرون تنظّم العلاقات بين مصر وبلاد النوبة.
انتشار الإسلام
وواضح أيضا أن الإسلام بدأ في الانتشار بسبب الهجرات العربية وحركة التجارة، ورغم سقوط مملكة النوبة في دنقلا، إلا أن السودان لم يكن في عداد الدول الإسلامية؛ حيث كان تحت حكم ممالك مسيحية لفترات طويلة، وكانت هناك قبائل عربية مسلمة ظلت جزءا من شعب مملكة علوة المسيحية وتدفع الضرائب لدولة علوة، إلى أن تهيأت الفرصة بقيام التحالف بين عبدالله جماع وعمارة بن عدلان الشهير بـ(عمارة دنقس) في بداية القرن السادس عشر، ذلك التحالف الذي كان هدفه إقامة حكم عربي إسلامي، وبقيامه اكتملت عناصر ثلاثة مهمة حسمت قضية تحوّل السودان إلى دولة إسلامية وتمثلت - كما رآها المؤرخون- في الضعف الذي أصاب المسيحية في السودان، ووجود القوة العربية الإسلامية، ثم الإيمان بضرورة التحول للإسلام بوصفه دولة.
الممالك الإسلامية
وكما قال البروفيسور يوسف فضل: «يمكننا أن نعد قيام دولة الفونج وبقية الممالك الإسلامية في السودان الميلاد الحقيقي لغلبة الثقافة العربية والإسلامية في السودان»، وأما ماسبقها من جهود لنشر الإسلام فهو حالة المخاض التي هيأت لهذا الميلاد، ووضعت بذوره وبداياته حتى اكتملت عناصره، وأكد بروفيسور يوسف فضل على أن عملية التحوّل إلى الدين الإسلامي كانت بطيئة جدا، كما أن انتشار الدعوة الإسلامية كان اسميا في كثير من مظاهره، وعد المرحلة الرئيسية لنشر الدعوة الإسلامية والثقافة العربية أسسا ثابتة بدأت بعد سقوط مملكة علوة.
قيام دولة الفونج
إن قيام دولة الفونج يدل على الوعي الذي نتج عن تعليم ديني رغم وجود حالات من الجهل ببعض أمور الشريعة، وهذا شيء طبيعي نتيجة للعيش في ظل ممالك مسيحية حكمت فترات طويلة، ولا شك أن قيام دولة الفونج الإسلامية ووجود السلطة في يد حكام مسلمين، عامل مهم من عوامل نشاط الدعوة الإسلامية، وقد أحاط ملوك الفونج أنفسهم منذ البداية بالعلماء والفقهاء، وكان عمارة دنقس يستقبلهم بترحاب، كما أن الملوك الذين جاؤوا من بعده كانوا يكرّمون العلماء والمشايخ، ويعملون بتوجيهاتهم، ويقبلون شفاعته، وبالمستوى نفسه كان زعماء العبدلاب يكرّمون العلماء، ويمنحونهم الإقطاعات، ويشوّقونهم إلى الإقامة معهم بمختلف الطرائق لنشر الثقافة الإسلامية.
دخول الإسلام السودان
ماذكرناه سابقا يؤكد على أن دخول الإسلام السودان كان مبكرا على يد الصحابة، واستمر مع الهجرات بأسبابها المختلفة وحركة التجارة، وقد كان سنيا صافيا، ثم كان انتشار التصوّف بعد فترات الحكم المسيحي الذي صادف أميّة وضعفا في العلم متزامنا مع الضعف الذي أصاب المسلمين عامة بعد سقوط دولة الأندلس؛ ولعلّ كتاب الطبقات لـ(ود ضيف الله) قد وثّق لتاريخ تلك الفترة، ورغم أن الكتاب يوحي بهيمنة التصوّف وغلبته وسيطرته على النشاط الديني فيها؛ لأن التصوف كان سريع التقبّل والانتشار بسبب الأمية وقلة العلم، كما ذكرنا سابقا، إلا أن الكتاب نفسه وثّق لما يمكن تسميته الخصومة والصراع بين جماعة (الفقهاء والعلماء) و(المتصوّفة)؛ ولأن سلطة رجال الطرق الصوفية كانت أقوى فقد اتجه بعض الفقهاء إلى الجمع بين العلم والتصوّف وبعضهم كانت لهم مواقف واضحة ضد التصوّف، وهؤلاء وأولئك فيما يبدو كان لهم دور كبير في التخفيف من حدة الهيمنة الصوفية على حياة الناس وربطهم بالكتاب والسنة ومحاربة الشوائب والبدع، ولعله من المناسب أن نورد نماذج وقصصا أوردها (ود ضيف الله) صاحب كتاب الطبقات.
الشيخ خوجلي عبدالرحمن
قصة الشيخ خوجلي عبدالرحمن الذي كان يلبس الثياب الفاخرة، ويتبخر بالعود الهندي، ويتعطر بالعطر الحبشي في لحيته وثيابه، ويعيّر على الصوفية الذين يلبسون الجبب والمرقّعات بقوله: «ثيابي تقول للخلق: أنا غُنية عنكم وثيابهم تقول: أنا مفتقرة إليكم»، وهو ممن جمع بين التصوّف والفقه، وحج إلى بيت الله الحرام.
الشيخ عبدالماجد الأغبش
الشيخ عبدالماجد بن حمد الأغبش، وكان ممن جمع بين العلم والعمل واتباع الكتاب والسنة، وكان غيورا على أصحابه ويمنعهم سلوك طريق القوم ويقول لهم أنا طريقتي القرآن.
موقف القاضي دشين
موقف القاضي دشين -قاضي العدالة- من الشيخ محمد الهميم خليفة تاج الدين البهاري في زعامة الطريقة القادرية، فقد زاد الشيخ محمد الهميم في نكاحه من النساء على الحد الشرعي وجمع بين الأختين، فأنكر عليه القاضي دشين ذلك بأنه مخالف للكتاب والسنة وفسخ دشين نكاحه، وتذهب القصة إلى أن الشيخ محمد الهميم دعا عليه بفسخ جلده لكن القاضي دشين كان صاحب موقف شجاع وما رجع عن أمره ومازاده ذلك إلا يقينا.
الشيخ الأعسر بن حمدتو
الشيخ الأعسر بن عبدالرحمن بن حمدتو، كان ممن رفض الانخراط في سلك الطرق الصوفية، قال ود ضيف الله: «طلب منه الشيخ عبدالقادر سلوك الطريق؛ فقال له: أنا غير هذا الكتاب (يعني مختصر خليل) ما عندي شيء، الواجب والمندوب والمباح فيه أفعله، والحرام والمكروه أجتنبه»، ومن ذلك ما رواه ود ضيف الله أيضا أن الشيخ عويضة أرسل لشيخ الأعسر وقال له: أعطني فرسك الفلانية أعطك ولدا يمسك عقابك؛ فامتنع، وقال: ولدا الله ما خصاني به ما بدوره بالوسايط (أي ولدا لم يخصّني الله به لا أريده بالوسطاء).
تحول مشايخ الصوفية
من الصوفية من تحوّل لدراسة العلم والفقه مثل الشيخ عبدالرحمن بن الشيخ صالح بان النقا، وقد كان أول أمره أن اتخذ مذهب التصوّف وسلك طريق القوم؛ فلما انتهى في السلوك، اشتغل بقراءة العلوم الظاهرة وتحصيل كتبها وبذل المال على المعلمين، وفسّر هذا الاتجاه بأنه بسبب رؤيا منامية ولم يذكر تفسيرا آخر لهذا التحوّل.
معارضة التصوف
هذه النماذج تؤكد لنا أن التصوّف وجد معارضة من علماء وقضاة رفضوا سلوك طريق القوم، وانتقدوا معتقداتهم، وممارساتهم المخالفة للكتاب والسنة، وكان لهم دور كبير في التخفيف من حدة التصوف وهيمنته على حياة الناس، بل وفرضوا واقعا جديدا خلافا لما رسّخه المتصوفة؛ فقد كان لهؤلاء العلماء تلاميذ وأتباع حتى تُوّج ذلك بظهور جماعة أنصار السنة المحمدية ودورها العلمي والعملي الكبير منذ أكثر من قرن من الزمان، ولعلّ هذا من حفظ الله لهذا الدين؛ حيث ينتخب له من الناس من يحافظ عليه ويحْيي ما اندرس منه على مدى الأزمان.
لاتوجد تعليقات