رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل رمضان 20 نوفمبر، 2024 0 تعليق

من مقاصد الشريعة الإسلامية – مكافحة الفساد المالي والإداري

  • الإدارة الإسلامية إدارة ناجحة لها نظام متكامل يشمل الحياة في مختلف الجوانب والاتجاهات فهي كتلة متماسكة قوية وراسخة في بنائها وشمولها
  • من أهم ما يميز السيرة النبوية تفعيل الرقابة الذاتية وتقوية الضمير في حس الموظف والعامل ليكون  أمينا على مال المسلمين
  • بدأت الرقابة بالوقاية من الفساد الإداري والمالي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فكان هو أول من طبقها
  • الفساد الإداري والمالي ظاهرة غريبة على نظام الإسلام ومخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وله آثار سلبية على الدولة والفرد والمجتمع
  • تشترط السنة النبوية فيمن يتولى أمر المسلمين أن يكون صالحا تتوفر فيه القوة والأمانة كما أن الوظيفة تعد تكليفا وليست تشريفا
  •  ابن باز: على طالب العلم أن يبذل وسعه ويفعل ما يستطيع مع العلماء ومع ولاة الأمور بالكتابة والمناصحة والتوجيه والصحافة والخطابة والاتصالات الخاصة وهذا هو الواجب.. أما السكوت فليس بعلاج
  • كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي جنوده بعدم الاعتداء على المدنيين وعدم تدمير الممتلكات أو قتل الرهبان في الصوامع
  • جعل النبي صلى الله عليه وسلم من الحكمة والحسنى أسلوبًا أساسيا في التعامل مع الآخرين حتى مع المعادين
 

الحديث عن الفساد المالي والإداري يكتسب أهمية كبرى؛ لما له من صلة وثيقة بحياة الناس، وللنتائج والآثار الخطيرة المترتبة عليه في حياة الأمم والشعوب، فإن أسس الشريعة الإسلامية من أهم مقاصدها، تحقيق مصالح العباد والعدل ودفع الحرج والمشقة، ولاريب فإن الفساد يعني إلحاق الضرر بالأفراد والمجتمعات والدول، والفاسد ينتزع من نفسه قيم الإسلام وأخلاقه السامية، ليهبط بها إلى معاني الرذيلة والإساءة إلى الآخرين، فقد قامت دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح ومن تبعهم بإحسان على مواجهة الفساد وترسيخ مقومات الصلاح والإصلاح.

        ويعد مصطلح (الفساد) من أكثر المصطلحات تداولاً ورواجًا هذه الأيام، فضلا عن اعتباره المسبب الرئيسي للأزمة الاقتصادية العالمية وانهيار مئات من البنوك والمؤسسات المالية والاستثمارية ومديونية كثير من دول العالم، ومن ناحية أخرى فإن ما يزيد من خطورة الفساد هو تعدد أهدافه وأنواعه؛ مما يساعد على انتشاره وتضخمه.

القرآن ومواجهة الفساد الإداري والمالي

        الفساد الإداري والمالي هو عدم الالتزام بالضوابط الشرعية المقررة في الإسلام، وهو مخالفة الفعل الشرعي ومقاصده، وهو مرادف للبطلان، وأعم من الظلم، وقد وردت لفظ (فسدت) في خمسين موضعًا في القرآن الكريم، وجميعها لها مدلولات تبين نظرة القرآن الكريم لهذه الآفة الخطيرة، ومن الملاحظ أن هناك شبه تلازم بين مصطلح الفساد وبين كلمة الأرض، وقد ورد هذا التلازم في نحو أربعين آية، وهي بلغة الحساب ثمانين بالمائة تقريبًا من مجموع الآيات، والقرآن يستعمل مصطلح الفساد بمعنى أوسع؛ بحيث يشمل الفساد العقائدي والسلوكي والسياسي والمالي والإداري.  

السنة ومواجهة الفساد الإداري والمالي

        الفساد في السنة النبوية هو المنكر عموما الذي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عنه، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، ويعد محاربة الفساد والقضاء على أسباب وقوعه أو حدوثه ونشر الخير والفضيلة أحد مقاصد السُّنة النبوية ومدار الإصلاح فيها، وهذا الاتجاه مبثوث في كل أقواله وأفعاله وسيرته الطيبة - صلى الله عليه وسلم - وحسبنا أن نذكر نماذج من أقواله في هذا المجال فقال - صلى الله عليه وسلم -: «طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي»، إضافة إلى كثير الشواهد التي تظهر جليا وبما لا يدع مجالاً للشك نهيه عن فعل الفساد مهما صغر حجمه أو تأثيره؛ إذ إن من أهم المنطلقات الشرعية التي يرتكز عليها كثير من علماء الأمة في استنباط أحكامهم الشرعية ما ورد عن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لا ضرر ولا ضرار».  

مظاهر مكافحة السنة النبوية للفساد

وقد تعددت مظاهر مكافحة الفساد في السنة النبوية ومن أمثلة ذلك ما يلي:

1- الرقابة الذاتية والإدارية الفاعلة

       يجب على كل متولّ لأمر من أمور المسلمين أن يكون مخلصا لعمله، واستحضاره لهذا الشعور يقوي الرقابة الذاتية في وقت، فمن أسس الإيمان لدى كل مسلم أن يعلم أن الله -تعالى- معه ويعلم تفاصيل ما يقوم به، وفي حديث أبي برزة الأسلمي مرفوعا: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه فيما فعل؟، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟، وعن جسمه فيما أبلاه؟»، ولو استشعر كل مسلم هذا الحديث لصلح حاله، ومن ثم ارتقى المجتمع الإسلامي إلى ما نطمح إليه من تطور ورقي بين أمم الأرض. ومن أعظم ما يقي من الفساد السعي لمرتبة الإحسان التي حدد النبي - صلى الله عليه وسلم - معالمها في حديث جبريل الذي فيه قال: جبريل ما الإحسان؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».  

حاجة النفوس إلى الردع

        ومع ما للرقابة الذاتية من أهمية إلا أن كثيرًا من النفوس تحتاج إلى رادع خارجي وصدق عمر - رضي الله عنه - في قوله: «إن الله يزع بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن» أي أن هيبة السلطان والخوف من عقوبته تردع أكثر من المواعظ لكثير من الناس لضعف إيمانهم. وقد مارس النبي - صلى الله عليه وسلم - الرقابة على عماله وبالمحاسبة حفاظا على أموال المسلمين من الضياع، أو سوء الاستغلال؛ حيث نجده قد استخدم الكتبة أو المحاسبين لحفظ أموال المسلمين، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - يمارس الدور الرقابي بنفسه على عماله، فعندما جاءه معاذ بن جبل من اليمن قال له أبو بكر: ارفع لنا حسابك»، وذكر الطبري أنه كان يراقب ولاته مراقبة شديدة، فكان لا يخفى عليه شيء من عملهم.  

عمر - رضي الله عنه - والرقابة الإدارية

       وأما عمر - رضي الله عنه - فقد طور آلية الرقابة الإدارية؛ إذ كان مهتما بهذا الأمر أشد الاهتمام، فقد قال يوما لجلسائه: «أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته فعدل، أكنت قضيت ما علي؟ قالوا: نعم، قال: لا حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته أم لا؟»، فاستشعاره للمسؤولية جعله يراها من واجبات الإمام، وليست الرقابة لمرة أو مرات ثم تقف، بل هي رقابة دائمة، حتى لا يقل العمل، أو يحصل تجاوزات فيه، كما كان يرسل محمد بن مسلمة للرقابة ليفتش على الولاة ويتفحص شكاوى الرعية والتحقق منها وممارسة التحقيق مع الولاة، ومن أشهر ما روي في ذلك تحقيقه في شكوى بعض أهل العراق ضد واليهم سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وكذا تحقيقه في شكوى بعض أهل دمشق ضد واليهم سعيد بن عامر - رضي الله عنه .

2- مكافحة الرشوة

        تعد الرشوة التي تعطى للموظف لتحقيق مكاسب شخصية أو غيرها من أكثر أنواع الفساد انتشارا؛ فالرشوة والمحسوبية والتملق والوصولية وكل ما يعطى لقضاء مصلحة أو لإحقاق باطل وإبطال حق، نص الإسلام بوضوح على تحريمها بل شدد في ذلك، ويظهر هذا مما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه في قوله: «لعن الله الراشي والمرتشي»، واللعنة هي الطرد من رحمة الله -تعالى- وهذا تعبير قوي جدًا لخطورة هذه الجريمة التي تهز أركان الدولة والمجتمع، وكما هو ظاهر من الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيّن خطأ الراشي وفحشه وهو من يبذل الرشوة، والمرتشي وهو من يقبلها، فمسؤولية هذه الجريمة لا يتحملها المرتشي فقط وإنما الراشي أيضًا مسؤول عن وقوعها وانتشارها، ومن هنا لابد وأن يتحمل المجتمع كله - إدارة وشعبًا- منع هذه الجريمة، وبالتشديد على منع الرشوة، وتحميل مسؤولية انتشارها؛ فإن الإسلام يضع أهم أسس الوقاية من الفساد والحد من انتشاره.  

      3- محاربة التعيين للقرابة والواسطة

        من أكثر أنواع الفساد الإداري انتشارا التعيين بالواسطة أو للقرابة، دون الاعتداد بالكفاءة والمهنية، وقد ورد التحذير الشديد من ذلك، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال إذا أسند الأمر إلى غير أهله»، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله». ومن هديه - صلى الله عليه وسلم - نجد التعيين في المناصب يكون وفق معيار الكفاءة، بأن يكون أمينا ذا صلاح وتقوى، وصفة الأمانة إحدى ركني الولاية ولذلك جاء في التنزيل: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (القصص:٢٦) وفي حديث حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل نجران» لأبعثن إليكم رجلا أمينا، قال: فاستشرف له الناس فبعث أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه ». فإن وجد رجلا أمينا في ضعف، ورجلا إداريا قوي، وليس بأمانة الأول فقال شيخ الإسلام: «إذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين، مثل حفظ الأموال ونحوها..»، والأمانة مرتبطة بالتقوى والصلاح الذي هو أهم شروط المنصب. والزجر عن طلب الولاية من الأمور التي ينفرد بها الإسلام؛ حيث ندر أن تجد في أدبيات الإدارة مثل هذا الزجر عن الحرص على الوظيفة، وثبت في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة»، ولعل إحدى المشكلات التي تعاني منها الإدارة العامة وجود أشخاص مسؤولين ذوي كفاءة متدنية يستميتون في البقاء في المنصب ولا يودون أن يتزحزحوا عنه، ولا يسمحون لغيرهم من الأكفاء أن يصلوا إليه.

    4- تحريم الهدية في العمل

       حددت السنة النبوية الأسس التشريعية لوقاية الدولة من الفساد، فقد حرم الإسلام حتى الهدية التي يمكن أن تبذل بحسن النية للموظف العام، ومن أظهر ما يروى في ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان له عامل أو موظف من بني الأسد لجباية الصدقات، فقدم هذا الرجل في إحدى المرات وأعطى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما جباه وقال له: هذا لكم وهذا لي، أي أن هذه هي أموال الصدقات التي تمت جبايتها، وأما هذا المال فقد أهدى لي، فقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - فخطب وقال: «ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي» أفلا قعد ببيت أبيه أو أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟، والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر».  

    5- التذكير بالمسؤولية الأخروية

       التذكير بالمسؤولية الأخروية وسيلة من وسائل مكافحة الفساد والوقاية منه، فمنذ أن بدأ التنزيل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسنة النبوية تؤكد أن الإنسان له رجعة أخروية يحاسب فيها عن أعماله وما كسبت يداه أمام الله -سبحانه وتعالى- وهو العدل الذي لا يظلم عباده شيئا، وعملت السنة النبوية الغراء على التذكير الدائم بهذه الحقيقة العظمى، وهذا التذكير جاء لكي يعظم أمر الخشية من الله في قلوب العباد ومن ثم يتقي العباد الوقوع في كل أمر منهي عنه، مهما صغر ذلك، كما اتبعت السنة النبوية أسلوب الترغيب والترهيب؛ حيث حضت على اتباع كل سلوك حميد، ورغبت في ذلك ابتغاء لجنة المولى -جل شأنه- وما أعد فيها للمتقين، ورهبت كل من يلجأ إلى سلوك مذموم وأنذرت من يتبع ذلك وخوفته من عقوبة دخول النار، كما قد تم التأكيد على أن ما يدور ويحدث من مظاهر للفساد في هذا الكون هو نتيجة لما اقترفته أيدي البشر وليس بسبب آخر. وكذلك فقد ورد في السنة النبوية المطهرة من الأحاديث ما يدل على وجوب مراعاة تذكر العرض على الله ليحاسب كل فرد عن أعماله وأقواله، ومن هذه الأحاديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقون ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا وأنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت؛ فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة».

السنة النبوية وأجهزة مكافحة الفساد

عرفت السنة النبوية ما يسمى بنظام الدواوين، وأنشئ العديد منها، ولكل منها وظيفتها التي يقوم بها، ومن بين هذه الدواوين ما كانت وظيفته رقابية بحتة كديواني الحسبة والمظالم.  

 ديوان المظالم

       في نطاق المحافظة على المال العام وحفظ حقوق الرعية من الظلم الذي من الممكن أن يقع عليهم من الولاة أو عمالهم على الولايات والأمصار، فقد عرفت الدولة الإسلامية ما يسمى بديوان المظالم، ويعد هذا الديوان من أهم أجهزة الرقابة في الدولة الإسلامية، فدور ديوان المظالم في الرقابة الإدارية أداة ووسيلة مهمة في مكافحة الفساد الإداري، وهي الأمور التي يجوز له النظر فيها دون التوقف على تظلم من أحد، ويشترك مع ديوان الحسبة في هذه الخاصية وهي عدم الحاجة للإخطار بالفعل لكي يتدخل ويباشر عمله، بل إن لكل منهما حق التدخل دون طلب من أحد، وتتمثل أهم اختصاصات ديوان المظالم في النظر في أعمال كتاب الدواوين؛ بحيث يطلع على أحوالهم وما يثبتونه في الدواوين، والنظر في تعدي الولاة على الرعية وأخذهم بالعسف، وذلك بالإطلاع على أعمالهم واستكشاف أحوالهم، فضلا عن رد الغُصوب السلطانية وهو ما يغصبة العمال والولاة لحساب الدولة استعمالا لسلطاتهم من أموال الرعية، وغيرها. وأول من نظر المظالم في الإسلام هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - المظالم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام ورجل من الأنصار، فحضره بنفسه، فأنزل الله -تعالى- قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النساء: ٦٥).

 ديوان الحسبة

      الحسبة في الشرع هي الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله، الحسبة كما عرفها الماوردي هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، والحسبة بهذا المعنى يمكن أن يقوم بها كل فرد؛ حيث إنها من الأمور الدينية التي يمكن القيام بها من قبل الكافة؛ حيث أن قاعدتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد كان للمحتسب الصلاحيات كافة في مواجهة الفساد والمفسدين ومراقبة مرافق الدولة العامة وتحصيل مواردها، ومراقبة أوجه الصرف فيها على النحو المشروع ،والكشف عن كل وجه من أوجه الإسراف والبذخ من جانب القائمين على ذلك؛ حيث وردت عدة أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تأمر أفراد المجتمع الإسلامي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها ما ورواه عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعته الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».  

أهمية الحسبة في الإسلام

       مما يدل على أهمية الحسبة في الإسلام، أنها تعد من أكبر القواعد الدينية، ومن أعظم الواجبات الشرعية. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم بالاحتساب بنفسه كما كان يسند القيام به إلى غيره، فهو - صلى الله عليه وسلم - كان يتجول في الإسلام، ويراقب سلوك الأفراد. ومن المدهش أن ترى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفكر في تنظيم بيع الطعام، وألا يكون فوضى، ذلك بأنه مادة أصيلة في غذاء الناس، فإذا كان بيعه منظما أمكن أن يراقب من ناحية الصحة والفساد، أما إذا كان بيعه فوضى فلا تستقيم مراقبته، وهذا يدل على أن للاحتساب أهمية كبيرة في حياة المسلم وضرورة حتمية لانضباط أفراد المجتمع وصيانته من كل منكر.  

الإسلام يدعو إلى الصلاح ومكافحة الفساد

         دعوة الإسلام إلى تحقيق الصلاح ومكافحة الفساد تتميز بالشمول والاتساع؛ لتشمل الأفكار والتصورات كما تشمل والآداب والأخلاق والتصرفات وتشمل مقاومة الفساد في شتى جوانب الحياة، حتى إن العالم الغربي -وهو يواجه أزماته- عاد لينهل من مبادئ المحاسبة الإسلامية، فعلق أحدهم: هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية?!  

أقوال أهل العلم في الفساد ومواجهته

  • ابن عثيمين: الإفساد في الأرض نوعان: الإفساد المادي والإفساد المعنوي وهو ما يحصل به الفساد وذلك بالمعاصي فإنها من أكبر الفساد في الأرض
  • ابن حميد: الفساد يُزَعزِع القيمَ الأخلاقيةَ القائمةَ على الصدقِ والأمانةِ والعدلِ وتكافؤِ الفُرَصِ وعدالةِ التوزيعِ
  • د.الشريم: الفساد ينتشر بانعدام شعور الأفراد بواجبهم تجاه الصالح العام فلم يجعلوا من أنفسهم مرآة لجهات الرقابة والنزاهة
 

الواجب على المسلم تجاه الفساد

        قال الشيخ عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله-: على طالب العلم أن يبذل وسعه، ويفعل ما يستطيع مع العلماء، ومع ولاة الأمور، ومع من له شأن في هذه المسائل، بالكتابة، والمناصحة، والتوجيه، والصحافة، وفي الخطابة، وفي الاتصالات الخاصة، وهذا هو الواجب، أما السكوت فليس بعلاج، إنما العلاج بالكلام الطيب، والأسلوب الحسن في إنكار المنكر، وفي الدعوة إلى الخير، وفي بيان العلاج، وفي بيان الداء والدواء، تذكر الداء، وأضراره، وخطره، وتذكر معه الدواء بحسب علمك، فلا وجه للسكوت، بل يجب على طالب العلم أن يكتب، وأن يتكلم بحدود ما شرع الله له في خطبته، وفي مجتمعاته مع إخوانه، وفي مدرسته وفي تعليمه للأولاد إذا كان أستاذًا، وفي غير ذلك من الوجوه يعلم ما شرع الله، ويعلم ما أمر الله به ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، ويناصح، ويكتب إلى المسؤولين بحسب علمه، ويتثبت، ولا يقدم إلا على علم، وعليه أن يشاور أهل العلم حتى يكون على بينة، فإذا كان على بينة، فليكتب، ولينصح، وليوجه، وليستعن بالله -تعالى- وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة، الدين النصيحة» وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - جرير بن عبدالله البجلي على النصح لكل مسلم، فالنصح يكون بالكلام، والكتابة، ويكون بالفعل، والعمل الصالح، ويكون بالخطب، ويكون بغير ذلك من وجوه النصح.

الإفساد في الأرض نوعان

        قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- تعليقًا على قول الله -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، الإفساد في الأرض نوعان، أحدهما: الإفساد الحسي المادي، وذلك بهدم البيوت وإفساد الطرق وما أشبه ذلك مما يفعله بعض الرعاع من الناس الذين يدعون أنهم بذلك مصلحون، وهم مفسدون بلا شك، هم مفسدون، وإلا فما ذنب البيوت، وما ذنب الطرق، وما ذنب الأبرياء حتى تهدر كرامتهم؟ فهؤلاء الذين يدعون أنهم مصلحون هم في الحقيقة مفسدون.

        والنوع الثاني من الإفساد: الإفساد المعنوي، يعني: فعل ما يحصل به الفساد، وذلك بالمعاصي؛ فإن المعاصي من أكبر فساد الأرض، قال الله -تعالى-: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، وقال -تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}، هذا يشمل إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض يشمل المعنيين جميعًا، والإفساد في الأرض بالمعنى الأول كثر في الآونة الأخيرة، وذلك بإلقاء القنابل وغيرها مما يدمر أبرياء، فإذا قيل لماذا؟ قالوا إنما نحن مصلحون، وهم في الحقيقة مفسدون، كما قال الله -عز وجل.  

الفساد منهج منحرف

         من جهته قال الشيخ: د. صالح بن عبدالله بن حميد، الفساد منهجٌ منحرفٌ، متلوِّنٌ، متفلِّتٌ، مستترٌ، محاطٌ بالسرية والخوف، وهو تواطؤٌ وابتزازٌ، وتسهيلٌ لارتكاب المخالَفات الممنوعة، والممارَسات الخطأ، والفسادُ استغلالٌ مقيتٌ للإمكانات الشخصيَّة والرسميَّة والاجتماعيَّة، يستهدِف تحقيقَ منافعَ غيرِ مشروعةٍ، ومكاسبَ محرمةٍ لنفسه ولِمَنْ حولَه، إنه سوءُ استغلالٍ للسلطةِ والصلاحيَّةِ، في مخالَفة للأحكام الشرعَّية، والقِيَم الأخلاقيَّة، والأنظمة المرعيَّة.  

الفساد يبدد الموارد

          وأضاف الشيخ ابن حميد، بالفساد تضطرب الأولوياتُ في برامج الدول ومشاريعها، وتُبَدَّد مَوارِدُها، وتُستنزف مصادِرُها، وبالفساد تتدنَّى مستوى الخدمات العامَّة، وتتعثَّر المشاريعُ، ويسوء التنفيذُ، وتَضعُف الإنتاجيةُ، وتُهدَر مصالحُ الناس، ويَضعُف الاهتمامُ بالعمل، وقيمةِ الوقت، ويضطرب تطبيقُ الأنظمة، والفساد يؤدِّي إلى التغاضي عن المخاطِر التي تَلحَق الناسَ في مآكلهم، ومشاربهم، وسائر مرافقهم.

 

الفساد يُزَعزِع القيمَ الأخلاقيةَ

        ثم أكد الشيخ ابن حميد أنَّ الفساد يُزَعزِع القيمَ الأخلاقيةَ القائمةَ على الصدقِ، والأمانةِ، والعدلِ، وتكافؤِ الفُرَصِ، وعدالةِ التوزيعِ، ويَنشُر السلبيةَ، وعدمَ الشعور بالمسؤوليَّة، كما ينشر الشعورَ بالظلم؛ ممَّا يُؤدِّي إلى حالاتٍ من الاحتقانِ، والحقدِ، والتوتُّرِ، والإحباطِ، واليأسِ من الإصلاح، والفساد يجعل المصالحَ الشخصيةَ تتحكَّم في القرارات، ويُضعِف الولاءَ الصادقَ للحقّ والأُمَّة والدولة، ويُعزِّز العصبيةَ المذمومةَ مذهبيةً أو قَبَلِيَّةً أو مناطقيةً، فهو يهدِّد الترابطَ الأخلاقيَّ، وقِيَمَ المجتمع الحميدةَ المستقرةَ.  

أسباب انتشار الفساد

         وعن أسباب انتشار الفساد قال الشيخ:  سعود بن عبدالعزيز الشريم: إن الفساد المالي والإداري ينتشر بانعدام شعور الأفراد بواجبهم تجاه الصالح العام، فلم يجعلوا من أنفسهم مرآة لجهات الرقابة والنزاهة ومكافحة الفساد، ولم يكلفوا أنفسهم أن يحتسبوا في الإبلاغ عن الفاسدين، لجهات المكافحة المعنية، ولا جرم أن التخاذل وإيثار السلامة في كشفه والتبليغ عنه، سبب ظاهر في طول عمر الفساد، وازدياد وزنه، ومن ثَمّ تخمته؛ فإن المرء إذا أكثر من استنشاق الفساد المالي والإداري وقع في الإدمان، فلا يغنيه استنشاق الهواء النقي، فيظل يبني مصالحه على صورة انتهازية بعبارة (خذ وهات)، وربما بلغ به الجشع مبلغا لا يعرف من خلاله إلا عبارة (هات وهات) فيملأ جيبه، ويواري عيبه، ويمسي كالنهم، يأكل فلا يشبع، أو كمن يشرب الماء المالح، لا يزداد بشربه إلا عطشا، فإن هؤلاء وأمثالهم، لم يلامس الوازع الديني شغاف قلوبهم، فلم يرهبهم وعيد القرآن، ولم تحجزهم محاذير السنة، فحُقّ لمثلهم أن يَصِحّ فيهم ما ذكره مالك في المدونة أنّ عثمان - رضي الله عنه - قال: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، قال ابن القاسم: قلت لمالك ما معنى يزع، قال: يكف».

تقويم النفس

       الدين الإسلامي لم يكتف بالإشارة إلى الفساد ومظاهره، بل وصف هذه الآفة وشخص الدواء الخاص لمعالجتها تشخيصا جذريا؛ لأن علاجها له ارتباط بتقويم النفس البشرية وهدايتها إلى طريق الصلاح، مع وضع عقوبات دنيوية وأخروية لمن يرتكب أي من أفعال الفساد والإضرار بالآخرين سواء أكانوا أفراداً أم جماعات.

القابلية للتطبيق

        إن منهج السنة النبوية في مكافحة الفساد منهج متميز في مفهومه وفي طريقته وفي تفاعله مع النفوس، وفي قابليته للتطبيق والتنفيذ فهو ليس مجرد طروحات نظرية وتجليات؛ فكرية وإنما منهج واقعي يساير الفطرة الإنسانية ويترك أروع الآثار وأحلى الثمار في دنيا الواقع والتطبيق.

أبلغ سبل الوقاية من الفساد

        وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبلغ أسس الوقاية والحماية من الفساد، فتحريم الهدية على الموظف، التي تبذل بغير طلب منه، قد يكون لها أثر كبير في نفس الموظف الذي قد يقوم بتأثيرها بارتكاب ما يخالف القانون في سبيل رد الجميل لمن أهدى له، وميل الموظف لمن أهدى إليه يعني تصرف في مقتضيات وظيفته، ومنها المال العام. تصرف غير مشروع: وقد حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من زمان توكل فيه الامور إلى غير أهلها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة قيل وما الرويبضة قال الرجل التافه في أمر العامة».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك