من مقاصد الشريعة الإسلامية – حفظ السلم والأمن الاجتماعي
من مقاصد الشريعة الإسلامية أن يعيشَ الإنسانُ مطمئنًا بسلام، لا يُعكِّر صفوَ حياته أيُّ اضطراب أو خلل؛ فالإسلام دينَ الفطرة الذي تُوافِقُ تشريعاتُه النفسَ البشرية السَّوِية التي تميلُ إلى السِلْم، وتسعى إليه وتعمل على استمراره، وتقوم قاعدةُ الإسلام على حماية الإنسان مِن الفَزَع والخوف، والقلق والاضطراب، والحرص على حمايته، والحفاظ على حقوقه المشروعة في الأمن والسكينة والسلام والاطمئنان؛ لذلك كان السلامُ الاجتماعي ضرورةً حيَّة للفرد والمجتمع كي يستقرَّ ويتماسَك؛ لذلك جاء الإسلام دعوة للسِّلم والسلام على مستوى العالم أجمع والبشرية جمعاء قال -تعالى-: {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} (يونس/ 25)، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات/ 13).
وإذا كانت هذه دعوة الإسلام على المستوى العالمي وفي العلاقة بين الأُمّة وسواها، فمن الطبيعي أن تكون أكثر تأكيدًا وإلحاحًا على الصعيد الداخل؛ لذلك تناولت العديد من آيات القرآن الكريم وتشريعات الإسلام قضية الوحدة والوئام والسِّلم ضمن الكيان الإسلامي، يقول -تعالى-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء/ 92)، ويقول -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران/ 103).
السلام الاجتماعي في الإسلام
ويعرف السلام الاجتماعي بأنه هو الطمأنينة التي تنفي الخوف والفزع عن الإنسان، فردًا أو جماعة، أي أن يكون المجتمع المسلم، كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضًا، ويستوعب هذا الأمن كل شيء مادي ومعنوي؛ فهو حق للجميع أفرادا وجماعات، مسلمين وغير مسلمين، محتويًا على مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض المطلوب شرعًا المحافظة عليها.
حقيقة السلام والأمن الاجتماعي
وفي أمر واضح ودعوة صريحة للالتزام بالسلم الاجتماعي، وتقرير له بوصفه شعارا للمجتمع، وتحذيرا من الانزلاق عن مساره، يقول -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، ورغم أنّ أكثر المفسِّرين قالوا بأنّ المقصود من السِّلم في الآية الكريمة هو الإسلام والطاعة لله، إلّا أنّ بعض المفسِّرين رجَّح أن يكون المقصود هو السِّلم بمعناه اللغوي أي الصلح والمسلمة وترك النزاع والاحتراب داخل المجتمع، وهو الرأي الراجح بالفعل، يقول محمّد الطاهر بن عاشور تفسيرًا لهذه الآية: «الذي نراه أنّ الله -سبحانه وتعالى- أمر مَن يؤمن به إيمانًا صحيحًا أن يدخل فيما فيه سلامته في الدُّنيا والآخرة، وطريق السلامة معلوم لدى الجميع، وهو التعاون والتآلف، وترك الحروب والخصام، ويؤيد هذا المعنى قوله -تعالى-: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} بعد قوله بلا فاصل {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}؛ حيث عدَّ الله -سبحانه- خطوات الشيطان الطريق المضاد للسِّلم، ووضع الإنسان أمام أمرين لا ثالث لهما: إمّا الدخول في السِّلم، وإمّا اتّباع خطوات الشيطان التي هي عين الشقاق والنزاع والشرّ والفساد.
تصحيح المفاهيم وترسيخ القيم
وفي حديثه عن هذا الأصل المهم من أصول الإسلام قال مستشار الوقف السني في مملكة البحرين الشيخ فتحي الموصلي: من القيم المهمة والركائز الضرورية في تحقيق الأمن والسلام الاجتماعي: «تصحيح المفاهيم وترسيخ القيم وتوضيح المعالم»؛ لأن الأمن ضرورة، والسلم الاجتماعي مطلب، وهما نعمة ومسؤولية على الجميع؛ لهذا فالأمر يحتاج إلى التوعية ويحتاج إلى التثقيف، ويحتاج إلى التعليم وإلى ترسيخ القيم المهمة الضرورية التي تساهم في تحقيق الأمن والسلم الاجتماعي.
واجبان شرعيان ومطلبان ضروريان
وأضاف، الأمن والسلام الاجتماعي لا يتحققان بالشعارات ولا بالأمنيات وإنما بالعمل والحلول وزرع القيم وبالتعاون؛ لهذا احتجنا إلى أن نُذكر ببعض الأمور العلمية والتربوية التي تساهم في تعزيز هذه القيم، وتجعل الإنسان يتعامل مع مطلب الأمن وضرورة السلم على أنهما واجبان شرعيان ومطلبان ضروريان، فلا يستقيم حال الأمة ولا تدوم مصلحة الدين والملة إلا بهما، وهنا أذكر ببعض الأمور التي ينبغي أن تظهر وأن تترسخ في عقول هذا الجيل:
أولاً: المسلم صاحب رسالة
المسلم صاحب رسالة وليس داعيا إلى العداوة، «كن صاحب رسالة ولا تكن صاحب عداوة» وأن هذه الرسالة في حقيقتها جاءت لتحقيق الأمن والإيمان، وجاءت تحفظ إيمان الناس وأمن الأوطان؛ لهذا قال الله -تبارك وتعالى-: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}؛ فأنت صاحب رسالة عالمية مفادها: أنك موجود لنشر الخير والإحسان والرحمة؛ لهذا علانية الداعية في الرسالة تؤدي به إلى عالمية الرحمة، كما قال الله -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وهذا لا شك أصل مهم ينبغي أن يُعتنى به.
ثانيًا: إرادة الخير للآخر
الأمر الثاني: إرادة الخير للآخر مهما كان هذا الآخر؛ لأن هذه الأمة أُمرت بأن تدعو إلى الخير{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } فإذا الدعوة إلى الخير وأيضا إرادة الخير للآخر قيمة مهمة في تحقيق الأمن، فالأولى: عالمية الرسالة، والثانية: عالمية الرحمة، والثالثة: أن هذه الأمة جاءت لبناء الحضارات؛ لأن رسالتها عالمية، ولأن الرحمة فيها شاملة، والإحسان من مقاصدها، والحضارة مطلب من مطالبها، وتحقيق العبودية شرط في نجاحها.
إشارة عظيمة
ولقد خاطب الله -تعالى- المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}؛ فهنا إشارة عظيمة؛ لأن كل مؤمن ينبغي أن يكون جزءا من السلم يدخل فيه ويتعايش معه؛ لأن الأصل في الحياة السلم، وأما الحرب فاستثناء، ولأن الأصل هو العمل والجدل وسيلة، ولأن الأصل هو الطلب والدفع للضرورة ففي الآية إشارة لطيفة إلى أن الانحراف عن السلم لا يكون إلا بإيحاء من الشيطان، فالذين يعملون في الأرض على نقض الأمن وإزالة السلم إنما ينطلقون من وحي الشيطان لا من وحي الرحمن، فإن الله -تعالى- يدعونا إلى السلم، والشيطان يدعو إلى نقضه وإزالته.
ديننا هو دين الوقاية
وأكد الشيخ الموصلي أنَّ ديننا دين الوقاية في النوازل والتحديات، ودين الحماية في الحروب والأزمات، ودين الرعاية في التطوير وبناء الحضارات، فنحن نتقلب بين الطرائق الوقائية وبين الأسباب التي فيها حماية لوجودنا، وبين رعاية القيم للنهوض والتطوير في بناء أمتنا وحضارتنا؛ لأننا ننطلق إلى العالم بدعوة عظيمة تتصف بالرحمة والإحسان، وتتصف أيضا بالرحمة والكمال؛ لهذا فالخروج من قانون السلم والأمن إنما هو مسلك من مسالك الشيطان.
ثلاث حقائق مهمة
وأضاف الشيخ الموصلي، إذا أدركنا هذه الحقيقة، وهي أن ديننا هو دين الرحمة لا دين قسوة ولا عنف، وأننا أصحاب رسالة لا دعاة عداوة، وأن المطلوب منا إرادة الخير للآخر، وأن الحرب استثناء، وأن النهوض لا يكون إلا بأسباب، والنهوض والحفاظ على السلم لا يتأتى من الأماني، وإنما بالأخذ بالواجب والأسباب، فلابد من التذكير في بناء القيم لتحقيق الأمن بثلاث حقائق مهمة ينبغي ألا تغيب عنا:
الحقيقة الأولى
أن الإسلام جاء بالأمن والسلام لكي يتفرغ المؤمن للعبادة وللعمل وللبناء وللعلم والعطاء، فالسلام والأمن في شريعتنا للحفاظ على الموجود واسترجاع المفقود؛ فأمننا ليس للترف وليس للمتعة وليس لقتل الوقت، وإنما حتى يتفرغ أهل الخير للقيام بواجباتهم في نشر الإحسان والخير، وأهل الطاعة بطاعتهم وعبوديتهم، فالأمن وسيلة موضوع لغاية .
الحقيقة الثانية
فإن الإسلام يريد منا أن نتعايش مع الآخرين لنُؤلف قلوبهم على الإسلام، أو لنقلل الشر عند غيرنا، فالتعايش مصلحة عظيمة وكبيرة، فهو إما أن يقرب الناس من الإسلام، وإما أن يقلل بغضهم وكرههم على الإسلام، وإما أن يجعل لنا أرضية صالحة للبناء؛ لهذا فإن الأمن لا يتحقق إلا بالتعايش، والسلم الاجتماعي لا يتحقق إلا بالسماحة وبنظر المقاصد بهذه الأمور.
الحقيقة الثالثة
إن مطلب الأمن والسلم الاجتماعي لا يتحقق إلا بالتعاون والتكامل، لا بالانفراد والتقاطع؛ لهذا قال الله -تعالى-:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}؛ فإن نقض الأمن وإضعاف السلم سيفضي إلى الإثم والعدوان ولا يكون إلا بترك واجب أو فعل حرام؛ من أجل ذلك فإن ديننا من أوله إلى أخره يدعو إلى هذه المعاني ويرغب في هذه الغايات.
تفعيل القيم لتحقيق الأمن الاجتماعي
وعن دور القيم الإسلامية في تحقيق الأمن والسلم الاجتماعي قال رئيس الهيئة الإدارية لفرع جنوب السرة بجمعية إحياء التراث الإسلامي د. سالم الحسيان: القيم عموما لا تؤتي أُكلها ولا تثمر على الفرد والمجتمع إلا من خلال مكوناتها الثلاث: المكون الأول: المعرفي، والمكون الثاني: الوجداني، والمكون الثالث: المهارى أو السلوكي، فإذا عرف الفرد القيم من خلال هذه المكونات الثلاثة فإنها تثمر، أما مجرد دراسة القيم أسماء من غير أوصاف هذه المكونات الثلاث تصبح خاوية عند الفرد.
قيمة الصبر عند النشء والشباب
ومن الأمثلة على ذلك نشر قيمة الصبر عند النشء والشباب، والصبر هو حبس النفس وهو أمر معرفي، كذلك ففي الجانب الوجداني يقول الله -عزوجل-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}؛ فبفضل الصبر يكون لك أجر كبير عند الله -سبحانه وتعالى-، وعند الناس يناسب قدرك، فيصير عند الشخص محبة للصبر وذلك في الجانب الوجداني وهذا مكون وجداني.
الأمر الثالث وهو الحركي أو السلوكي، يقول: أنا الآن عرفت أن الصبر هو حبس النفس وعرفت كذلك الأمر الوجداني وأحببت الصبر، ولكن الآن كيف أصبر؟ وهذا هو المحور السلوكي المهاري؛ فنقول له: مثلا قيامك لصلاة الفجر هذا من الصبر، ووضوؤك مع البرد والشتاء هذا أيضًا من الصبر، كذلك صبرك على أي شخص استهزأ بك في الشارع هذا يعد من الصبر أيضًا، وهذا يحقق الأمن والسلم الاجتماعي الذي هو محور حديثنا، وبذلك يكون أدرك معني قيمة الصبر وارتبط بها وأدرك كيف يمارسها.
قيمة التضحية
ومن ذلك أيضًا قيمة التضحية من أجل الله -سبحانه وتعالى- ثم للوطن، فليعلم أنه يضحي للوطن من أجل الله ومن أجل إقامة شرع الله -تعالى- وهذا مكون معرفي، وعندما يعرف فضل التضحية في سبيل الله -سبحانه وتعالى- وفي سبيل رفعة الإسلام ورفعة الدين، كذلك الجهاد بالكلمة والجهاد في الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- عندما يعلم فضل ذلك فإنه يحقق الارتباط الوجداني بهذه القيمة، ثم يأتي المكون الثالث وهو أن يتعلم كيف يضحي في سبيل الوطن من خلال الدعوة إلى الله -تعالى- والعمل على نهضة المجتمع والبذل في سبيل الأمور النافعة، فمن خلال هذه المكونات للقيم فإننا نستطيع أن ننهض بالمجتمع بطريقة صحيحة ومؤثرة.
إحدى مهمات الحياة وأساسياتها
ومن جهته قال الكاتب والباحث الأردني د. لؤي الصمادي: امتنّ الله -تعالى- على عباده بنعمة الأمان والسلام، وهي إحدى مهمات الحياة وأساسياتها، فنبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَن أصبحَ منكم آمنًا في سربِهِ، مُعافًى في جسدِهِ عندَهُ قوتُ يومِهِ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا»، ولأن حفظ النفوس من الضروريات الخمس التي كفلها الإسلام وقصد إلى حفظها، فقد جاءت الشريعة بجملةٍ من القيم التي تضمن تحقيق ذلك وترعاه وتحوطه من جوانب عدة، ومن تلك القيم ما يلي:
تحقيق العدل والإحسان
فقد جاء الإسلام بتحقيق العدل والإحسان، وتحريم الظلم والبغي والعدوان؛ لتبقى القلوب مؤتلفةً متحابة، وشرع من أنواع الإحسان ما يعزز ذلك إيجابًا واستحبابًا؛ فأمر بصلة الرحم ونصرة المظلوم وإعطاء الفقير، وحثّ على إفشاء السلام وزيارة المسلمين والتبسم في وجوههم والدعاء لهم، وهذا كله يبث في مجتمعهم روح المحبّة والأُلفة والوحدة.
منع التشاحن والتباغض
والإسلام أيضًا يمنع كلّ ما يؤدي إلى تشاحن المسلمين وتباغضهم، وهو سبب كبير لوقوع العدوان وزوال الأمان؛ فنهى عن الغيبة والنميمة والحسد والقطيعة فوق ثلاث، ونهى في البيوع عن البيع على بيع أحد، وعن التناجش والغش والتدليس.
مراقبة الله -تعالى- والخوف من عقابه
وفوق كل ذلك، فقد رسخ الإسلام في نفوس العباد مراقبة الله -تعالى- والخوف من عقابه، فالمعتدي على معصوم الدم مخاصم لله -تعالى- في حقوق عباده، وفي هذا أعظم وازع عن الشرور التي تقع بين الناس.
لاتوجد تعليقات