رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 31 يناير، 2022 0 تعليق

من محاضرات كبار العلماء (4)سماحة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان – الاستقامة على دين الله

 


 

هذه محاضرة من نفائس محاضرات العلامة الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- نضعها بين أيديكم؛ لما فيها من الذكرى العظيمة بشأن {الاستقامة على دين الله}؛ حيث بين الشيخ في بداية محاضرته أن الاستقامة معناها الاعتدال والوسطية بين الإفراط والتفريط، بين التشدد والتساهل، وذلك بالسير على وفق كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان عليه السلف الصالح، من صدر هذه الأمة، قال -تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

      وقوله -سبحانه-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} أي معتدلا، {فَاتَّبِعُوهُ} سيروا عليه، {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} أي ما خالف هذا الصراط من مذاهب الناس وآرائهم وأقوالهم ومعتقداتهم المخالفة لمنهج الكتاب والسنة، {هَذَا} الإشارة إلى ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة، {صِرَاطِي} أضافه إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، ولأنه -سبحانه- هو الذي شرعه، وأمر بإتباعه فقال: {فَاتَّبِعُوهُ}، سيروا عليه حتى يوصلكم إلى الله وإلى جنته، {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} انظر كيف وحَّد صراطه لأنه صراط واحد، وعدَّد السبل لأنها كثيرة.

 

ما يتميز به أصحاب سبيل الحق

      وكل من خرج عن هذا الصراط فإنه يختار لنفسه سبيلا ومنهجًا وطريقة يختص بها، والآخر كذلك، والآخر.. إلى آخره، فلا يجتمع هؤلاء أصحاب السبل على منهج واحد، فيكونوا مختلفين بخلاف الذين ساروا على صراط الله المستقيم، فإنهم يكونوا متفقين ومتوافقين ومتحابين ومجتمعين، وكما أنهم اجتمعوا في الدنيا على هذا الصراط وتحابوا في الله فإنهم يكونون في الجنة أيضا مجتمعين على سرر {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}، هذا في الدنيا والآخرة، أما أصحاب السبل المخالفة لهذا الصراط فإنهم يعيشون على الاختلاف والتناحر والتباغض في الدنيا وفي يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا ويتشامتون بينهم، وكل يلقي باللائمة على الآخر.

 

حقيقة الاستقامة

     ثم تابع الشيخ الفوزان كلامه قائلا: «أهل الصراط المستقيم في وفاق دائم، ولهذا قال: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}، {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} أعلنوا هذا ثم أتبعوا القول بالعمل ثم استقاموا على دينه، استقاموا على دينه، {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} اعتقدوا هذا بقلوبهم ولم يكن قولا بألسنتهم فقط، بل اعتقدوا هذا في قلوبهم، وساروا عليه في أعمالهم، وتصرفاتهم، فتبعوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه، وساروا على شرعه ودينه، هذه هي الاستقامة، ثم استقاموا، لأنه لا يكفي القول بدون العمل، فهناك من يقول ربنا الله ثم لا يستقيم {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}، هؤلاء هم المنافقون الذين قالوا ربنا الله في الظاهر ولكنهم لا يستقيمون على ذلك بالاعتقاد والعمل، أن يقولوا ربنا الله، {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه} فينحرف اتقاء لأذى الناس، ولا يَتصور عذاب الله وهو أشد من أذى الناس، فر من الرمضاء إلى النار والعياذ بالله، {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، مجرد قول ليس عليه استقامة، وإنما هو مجرد قول، وهؤلاء هم المنافقون، وهم {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً}، {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ} هذا عند الوفاة، تتنزل عليهم الملائكة عند قبض أرواحهم تظهر لهم تبشرهم بما أمامهم، تطمئنهم على ذرياتهم، وعلى ما خلفوه من الدنيا {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ}، تقول لهم لا تخافوا مما أنتم قادمون عليه، فإنكم قادمون على جنات ورضوان من الله -سبحانه وتعالى- ونعيم مقيم فلا تخافوا مما أمامكم، لأنكم أَمَّنْتُم مستقبلكم وأنتم على قيد الحياة، قدمتم لأنفسكم ما يؤمنكم يوم القيامة، ولا تحزنوا على ما تركتم من الدنيا من الأموال والأولاد، لأن ما عند الله خير وأبقى، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ}، لما طمأنوهم بشروهم، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}، {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أي تطلبون، {نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}، هذا نزلهم يوم الدين خلاف نزل الكافرين والمكذبين فإنه جهنم والعياذ بالله. {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}، {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}.

 

الاستقامة بحسب الاستطاعة

      ثم أضاف الشيخ فقال: كل يستقيم بحسب استطاعته ومقدرته، قل -تعالى-: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «سددوا وقاربوا سددوا»؛ أي أصيبوا الهدف والحق فإن لم تستطيعوا التسديد فقاربوا الإصابة، والله جل وعلا قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}، يعني تكون الاستقامة بحسب الأمر والنهي بحسب شرع الله، لا يبتكر الإنسان عبادات أو أشياء من عنده ويظن أنها تقربه إلى الله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} أمر بالاستقامة، ونهيٌ عن الغلو، فلا يقول الإنسان: أنا لست بمستقيم ويشتد ويغلو حتى يخرج من الاستقامة إلى التشدد، وفي الآية الأخرى قال جل وعلا: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}، استقيموا إليه بالاتباع والاقتداء، واستغفروه عما يحصل من النقص لأن الإنسان عرضة للنقص لكن يجبر ذلك بالاستغفار، لأن الإنسان عرضة للنقص مهما حاول، ولهذا قال: « ولن تحصوا»، فالاستغفار يرقع ما حصل من الخلل.

 

الدعاء بالثبات على الصراط المستقيم

     ثم بين الشيخ من أسباب الثبات على الصراط قائلا: والله -جل وعلا- أمرنا أن ندعوه في كل ركعة من صلاتنا حينما نقرأ في سورة الفاتحة في آخرها {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} تطلب من الله أن يدلك ويرشدك ويثبتك على الصراط المستقيم، الذي قال الله عنه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} تسأل الله أن يبينه لك وأن يهديك له وأن يثبتك عليه، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بين الله -جل وعلا- من هم الذين أنعم عليهم في قوله -تعالى-: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً}، فإذا أطعت الله ورسوله كنت مع هؤلاء ومن كان مع هؤلاء فلن يستوحش لا في الدنيا ولا في الآخرة، هؤلاء هم الرفيق، {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً}، رفيق على هذا الطريق، لأن الذي يسير مع طريق يحتاج إلى رفيق يؤازره ويؤنسه، فرفيقك هم هؤلاء الصفوة من العباد، ثم قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} تسأل الله أن يجنبك طريق اليهود ومن سار على نهجهم من المتساهلين والمنحلين عن صراط الله {وَلا الضَّالِّينَ} وهم من تشدد في هذا الدين كالنصارى ومن سار على نهجهم، فأنت تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم، وأن يجنبك طريق المغضوب عليهم وهم اليهود ومن سار على نهجهم ممن أخذ العلم وترك العمل، وتساهل، ويجنبك طريق الضالين وهم الذين يسيرون على غير علم ويتشددون، وهم النصارى في رهبانيتهم، فهذا أمر مهم جدا يجب أن نتنبه له، ولن نعرفه إلا إذا تعلمنا العلم الشرعي، تعلمنا تفاصيل ذلك، وبيانه من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلا بد من العلم أولًا، ثم العمل والاستقامة عليه.

 

الحذر من التساهل والتميع

     ثم حذر الشيخ مما هو ضد الاستقامة فقال: هناك من يدعو إلى التساهل وهناك من يدعو إلى التشدد الآن على الساحة، هناك جماعات تدعو إلى التشدد والغلو، وهناك جماعات في المقابل تدعو إلى التساهل والتسامح وإلى آخره، فلنكن على حذر من هؤلاء وهؤلاء، لنكن على حذر من الغلاة والمتشددين والمتطرفين، ولنكن على حذر أيضا من المتساهلين والمنحلين، ولنكن مع الوسط مع الاعتدال، مع الذين سلكوا طريق المنعم عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. الله -جل وعلا- قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} صحابة رسول الله  -صلى الله عليه وسلم -، {اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} أي: بإتقان لا يغلون فيخرجون عن طريق المهاجرين والأنصار، ولا يتساهلون فيخرجون عن طريق المهاجرين والأنصار، هذا هو الإحسان، الإحسان هو الإتقان، ولن تتقن طريق المهاجرين والأنصار إلا إذا تعلمت طريقهم وما هم عليه، وعرفت ذلك بالتفصيل، وإلا كل يدَّعِي وصلا بليلى كما يقال. كل يدعي أنه على منهج المهاجرين والأنصار، لكن هذه دعوى يخالفها واقعه وسيرته: إما أنه يجهل طريق المهاجرين والأنصار، فيظن أنه هو التشدد أو أنه هو التساهل، وإما لأن عنده هوى، فهو يتبع هواه في الحقيقة، وإن كان يدعي أنه يتبع المهاجرين والأنصار، فهذا إنما يتبع هواه، أو يسير على ما يخططه له الأعداء الذين يتظاهرون بالإسلام والدعوة إلى الله ولكنهم على غير طريق المهاجرين والأنصار.

 

أمر يجب أن نتفطن له

     ثم نبه الشيخ إلى قضية مهمة فقال: فالذي يُخِلّ بمنهج المهاجرين والأنصار لا يَخْلو من أمرين: إما أن يكون جاهلا بطريقهم، وإما أن يكون متبعًا لهواه أو هوى غيره ممن يقلدهم ويسير في ركابهم، فهذا أمر يجب أن نتفطن له، واليوم كما تعلمون هناك غلاة ومتشددون يحملون أفكارا متشددة، متطرفة، ويعملون أعمالا مروعة باسم الجهاد كما يزعمون فيقتلون المسلمين والمعاهدين الذين حرم الله قتلهم، يقتلون النفس التي حرم الله، بدعوى الجهاد، وهذا نتيجة التشدد وعدم الفقه في دين الله -عز وجل-، وهناك في المقابل متساهلون يريدون من الناس أن يخرجوا عن الدين، يتسمون به فقط، ولكن يكونون على هواهم وعلى ما يريدون أو ما يريده لهم قادتهم وأئمتهم وجماعتهم وأحزابهم وإنما يكتفون باسم الدين، والسير على غير طريق الدين، فهذا خطر عظيم، يتخطف شباب المسلمين اليوم، إما التساهل والانحلال، وإما التطرف والغلو، والمطلوب هو الاعتدال والتوسط، فهذا هو طريق النجاة، طريق الوسط والاعتدال، وهذا لا يحصل بدون أن تتعلم، أن تتعلم العلم النافع الذي يدلك على هذا المنهج السليم والطريق المستقيم من كتاب الله وسنة رسوله، لا من قول فلان ولا من قول علان، إنما تأخذ ما يوافق الكتاب والسنة، ودع عنك أقوال الناس الغالية والجافية، دعها عنك وابتعد عنها ولا تغتر بها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك