رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات 13 يونيو، 2017 0 تعليق

من مبادئ الإسلام مع المخالفين: السماحة والمساواة وعدم الإكراه في الدين

 

تنظر الثقافة الغربية لمبدأ  (قبول الآخر) بكونه أهم مفاخر منتجاتها القيمية والثقافية، وتعبر مع مجموعة القيم الأخرى عن مضمون الديمقراطية الغربية، ومع اتساع نطاق (العولمة) سعت القوى الغربية لفرض منظومة قيمها بكل الوسائل حتى صارت هذه المنظومة قانونًا عالميا ملزما للدول، بغض النظر عن اختلاف سياقها الثقافي والديني.

 

     تلقف الداخل المنهزم حضاريا تحت وقع الانهزام المادي هو المصطلح المُصَدَّر، وعمل على تأصيل المفاهيم الغربية الحديثة داخل المرجعية الثقافية والتراثية الإسلامية، لكي يبرهن بذلك على أصالة الدخيل! وأن له جذوراً، إن في ديننا وشرعنا، أو على الأقل في تراثنا عموما، وهو ما أسماه المفكر المغربي محمد عابد الجابري في إحدى محاضراته  بـ(تبيئة المفاهيم الحديثة في ثقافتنا)، وقد وجد(الجابري) ضالته في تجذير التسامح وقبول الآخر،  في مفهوم (العدل)عند المعتزلة، و(الحرية) عند (القدرية)، ومفهوم الإيمان عند (المرجئة)، بكونه هذه المفاهيم هي الأسس الفكرية لمفهوم التسامح ونبذ التعصب. «وهي أطروحة غريبة جدًا تتجاهل حقيقة هذه الفرق وتعسفها مع المخالف، بل وتكفيرها له، ولكن لسنا بصدد مناقشتها».

 

الدعاية للقيم الغربية

      في السنوات الأخيرة، تجاوزت حالة الدعاية للقيم الغربية النخب والمثقفين، الذين شكل خطابهم النخبوي حاجزًا بينهم وبين الجماهير، لتروج هذه المفاهيم بطريقة شعبوية مبسطة، مستهدفة قطاعات عريضة واسعة من الشباب المسلم، عبر سلسلة من المناشط الثقافية التي تركز جل جهودها على ثقافة (قبول الآخر) بطريقة مثيرة للانتباه، أفلام وروايات وكارتون أطفال ومؤتمرات وورش عمل، كلها عن (قبول الآخر)!

 ولا يقتصر الأمر على دعاة الليبرالية، بل يشاركهم في ذلك بعض الدُعاة، ممن يقدمون خطاباً (ليبروإسلاميا)، حتى كتب بعضهم كتابا يصف فيه إبليس أنه أول من رفض الآخر، بخلاف الملائكة التي تقبلت الآخر!، وهو يبين مدى السخف الذي يمكن أن يصل إليه العقل المشبع بالتقليد الأعمى، ومحاولة إنتاج مفاهيم في غير سياقها الموضوعي أو التاريخي.

 

مفهوم التسامح وقبول الآخر

     برز مفهوم التسامح وقبول الآخر في منتصف القرن السادس عشر، أثناء الصراع المشتعل بين (الكاثوليك) الذين كانوا يكفرون (البروتستانت)، ويرونهم هراطقة، خارجين عن الدين، وحاولت أوروبا التغلب على صراعاتها المذهبية عن طريق إحياء التسامح وقبول الآخر، وتطور هذا المفهوم عبر مراحل عدة، حتى وصل في زمننا إلى دعوة البابا (فرنسيس) لقبول الملحد والمثلي!، ورغم كل هذا ظل هذا الآخر مقبولاً شريطة الذوبان في (الأنا) الغربي، وأما خارجه فظلت فلسفة (هيجل) بجدليته الشهيرة (السيد والعبد) هي المسيطرة على (السيد) الغربي، الذي لا يرى في الآخر المسلم والعربي إلا مجموعة من البرابرة الهمج، يجب على السيد احتلالهم والتحكم في مقدراتهم. ورغم ذلك  لم يستطع الغرب -حتى الآن-التغلب على موجات رفض الآخر في داخل مجتمعاتهم، ولو كان آخر في لونه، فضلا أن يكون مهاجرا مسلما!.

من الواضح إذاً اختلاف السياق الذي تم فيه إعادة إنتاج المصطلح، فالثقافة الإسلامية لم تعرف عبر تاريخها، اعتبار المخالف في اللون، والجنس، والعرق مكوناً آخر، وتعاليم الإسلام واضحة في نفي الأفضلية إلا بالتقوى، ولم تبرز إشكالية (قبول الآخر) ولو في الدين،  كمفرز داخلي، بل تم استيرادها-كعامة المفاهيم المستوردة-وإيجاد المشكلة حولها، لتسويغ تقديمها بكثافة.

 

معيار التحاكم

     كل ما سبق، لا يعني رفض المفهوم لمجرد كونه دخيلا، ولكن يبقى الإشكال دوما، أيهما يكون معيارًا يحاكَمُ إليه؟ هل نحاكم الشرع وفق معيارية (قبول الآخر) فنرد، أو نتأول ما يخالف المعيار المخترع؟ أم نجعل الشرع حاكما على كل الثقافات، والمفاهيم، والفلسفات الوافدة مهما كانت سطوتها؟ هذا ما يحتم علينا أن نضع بعض المحددات التي من خلالها ننظر: من هو الآخر؟ وما معنى قبوله؟ ومدى توافق أو تصادم المفهوم مع الشريعة.

 

قبول الآخر والنسبية

      اكتوت أوربا عبر تاريخها، بالحروب المذهبية والدينية، كرست هذه الخلفية ثنائيات كثيرة في البنية المعرفية الغربية، ما يهمنا في موضوعنا،  ثنائية  المطلق والتعصب، والنسبي وقبول الآخر؛ فادعاء احتكار الحقيقة المطلقة في الدين سيؤدي إلى التعصب ضد المخالف، ورفض وجوده، والحل -من وجهة النظر الغربية -في النسبية، بل يرفض بعض المثقفين الليبراليين كلمة التسامح؛ لأنها تنطوي على موقف استعلاء (حيث يوجد المتسامح في مستوى أعلى والمتسامح معه في مستوى أسفل). ولا توجد هذه الثنائية في الثقافة الإسلامية؛ فالمسلمون الذين يعتقدون اعتقادًا مطلقًا بصحة دين الإسلام، وبطلان ما سواه، شهد لهم خصومهم أنهم كانوا في غاية التسامح مع غير المسلمين، وهي شهادات مشهورة. وأما اللون والجنس والعرق فلم يُعده المسلمون من المكون (الأنوي)؛ ومن ثم فلا آخر من الأساس، بل هو نفس المؤمن، كما التعبير القرآني الفريد في أكثر من موضع {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}الحجرات (١١) وقوله -تعالى-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} النساء (٢٩).

 

الولاء والبراء والتسامح

     يخلط بعضهم بين هذين المقامين، سواء من الإسلاميين أم الليبراليين، فالولاء والبراء مجاله العقائد، التي لا مجال للمداهنة فيها، بخلاف التسامح فإن مجاله المعاملة. والله -تعالى- الذي قال: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)}الممتحنة  هو -سبحانه-الذي قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}المائدة، وغيرها من الآيات الكثيرة جدًا، ولا تعارض؛ فمعاني الولاء تدور حول المودة القلبية، والرضا بدينه، وتصحيح دينهم، والنصرة له على ذلك، وطاعتهم فيما يأمرون به من الكفر والصد عن سبيل الله، والتشبه بهم في عباداتهم وعاداتهم الخاصة المميزة لهم،ونحو ذلك من المعاني التي تدور حول ما ذكرنا. وأما البر والإقساط فيتعلق بأمور المعاملات التي تؤدي للتعايش السلمي، كالبيع والشراء، والإجارة، والإهداء إليه وقبول هديته، وزيارة مريضه، وتعزيته، ونحوها من مظاهر المعاملات التي تحقق التعايش بين أبناء الوطن الواحد وإن اختلفت أديانهم.  بل ذهب الإسلام لما هو أبعد من كل هذا فأجاز زواج المسلم من الكتابية العفيفة، وتحقق التعايش السلمي واقعا حيا في المدينة لما هاجر إليها النبي [ وقت أن كان العالم لا يعرف شيئا عن هذه  المعاني. وإشكالية بعض المثقفين العرب، بل وبعض الإسلاميين هو الترويج لفكرة (قبول الآخر) غير المسلم  دون بيان حدود التقبل لهذا الآخر، هل هو تصحيح دينه؟ أو الرضا به؟ أو عدّ الدين أمرًا نسبيا لا يضر الخلاف فيه؟ أم يريدون به التعايش الذي قدمنا صورًا منه آنفا؟ لاشك أن الإجمال في مثل هذا يؤدي للخلط المعيب.

 

النهي عن المنكر الصادر من الآخر

     النهي عن المُنكَر، مما لا يروق لدعاة (قبول الآخر) وهو يمثل إشكالية ضخمة بالنسبة لهم، فقطعيته من الدين لا تحتمل عبثًا اعتادوه باسم التأويل والتفسير، وهو في أدنى صوره (الإنكار بالقلب) يتصادم مع أدنى درجة في (قبول الآخر) وهو التقبل لحقه فيما يعتقد أو يعمل، فضلا عن الإنكار باللسان الذي يعده بعضهم وصاية مرفوضة، فضلاً عن التغيير باليد -ولو من الدولة- الذي يعده بعضهم تدخلاً في الحرية الشخصية، ومما يجب التنويه له، أن هذه الشعيرة العظيمة قد وضع لها الفقهاء ضوابط كثيرة؛ لما لها من خصوصية في احتمال تحولها إلى أداة فتنة إذا خرجت عن هذه الضوابط، فيصير الإنكار في ذاته منكرًا يجب النهي عنه، ولا تحمل تبعاته للشريعة.

 

 الحرية الدينية وحد الردة

     منح الإسلام حق الاختيار وعدم الإكراه في الدين: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}البقرة (٢٥٦) وطبق المسلمون هذا في واقعهم عبر التاريخ؛ فلم يكرهوا اليهود ولا النصارى ولا غيرهم على تغيير دينهم، ولا يستثنى من هذا إلا حالة واحدة وهي (حالة الردة) التي جاء فيها الحديث الصحيح: «من بدل دينه فاقتلوه» التي يظهرها صاحبها ويفشيها في المجتمع،وهو ما يماثل (الخيانة العظمى) في الدولة الوطنية؛ فالأمر لا يتعلق بحريته، وحق اختياره للدين، بقدر ما يتعلق بالحفاظ على المجتمع من البلبلة. وما المانع إذا فتح الباب على مصراعيه أن يدعي قوم الإسلام كذبا ثم يخرجون منه بدعوى لم نقتنع؟! وقد حدثنا القرآن عن طائفة من اليهود كانت تمارس هذه الحرب النفسية ضد المسلمين {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)}آل عمران. ومع ذلك وضع العلماء للحكم بالردة ضوابط صارمة، تمنع التساهل فيه، ولم تجز للحاكم عقد محاكم التفتيش على العقائد المضمرة، ولا ما استتر من الأقوال والأفعال، ولعل هذا أحد أسباب عدم إقامة النبي [ حد الردة على من علم نفاقه عن طريق الوحي، أو عدم وجود بينة ونحو ذلك، واكتفى [ بظواهرهم ووكل سرائرهم إلى الله.

 

    وهذه النقاط التي سبقت تمثل مسارات تصادم بين فكرة التعايش في الإسلام، و(قبول الآخر) في الثقافة الليبرالية، وهذا لا يمنع من وجود مساحات اتفاق؛ فلا إنكار في الخلافيات التي لا تصادم النصوص، ومعاملة غير المسلمين بالسماحة والبر والإقساط، ومساواة الجميع أمام القانون، وتقرير حرية التدين، وعدم الإكراه في الدين، ونفي التفضيل إلا بالتقوى، وإلغاء عَدِّ الجنس أو اللون أو العرق أساساً للاضطهاد، ورفض الوجود؛ كل ما سبق مسارات اتفاق، وإن كانت على أساس مختلف.

 ومن هنا يتبين لنا خطأ من شحن الألفاظ القرآنية بالمحتوى الثقافي الأجنبي لتمريره في الداخل الإسلامي، وهو مسلك قديم حذر منه شيخ الإسلام -رحمه الله- في مثل قوله «يعبرون بالعبارات الإسلامية القرآنية عن الإلحادات الفلسفية واليونانية» وقوله «ولا ريب أن القوم أخذوا العبارات الإسلامية القرآنية والسنية، فجعلوا يضعون لها معاني توافق معتقدهم».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك